قبل أيام كانت ذكرى وعد بلفور المشؤوم، ذكرى سنوية جديدة، هذه المرة تأتي مع حرب مستعرة في قطاع غزة، يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي. وهذه المرة تأتي بعد أن قال رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو إن الحرب الحالية هي «الحرب الإسرائيلية الثانية من أجل الاستقلال». في حرب «الاستقلال الأولى» التي هي النكبة، هُجّر نحو 800 ألف فلسطيني من أرضهم، وذلك بعد الذبح والقتل وبقر البطون وفقْء العيون، وبعد كثير من المذابح، لا تزال الدراسات تتطرق إليها حتى يومنا هذا. وهذه المذابح وما أدّت إليه، اسمها «التطهير العرقي» وهي لم تتوقف فعلياً منذ النكبة.النكبة هي النقطة التي يجب إعادة التركيز عليها، ففي بعض الأحيان يصعب على الفلسطينيين شرح هول الذي جرى في عامها، وفي بعض الأحيان يتعرّضون للتكذيب بسبب «عدم معقولية» الأحداث، وحينها يتم اللجوء إلى ما كتبه عدد من المؤرّخين الإسرائيليين الجدد كإيلان بابيه وبيني موريس (عاد صهيونياً) وشلومو ساند وغيرهم، وحينها تجري عمليات مطابقة بين الذي كتبه هؤلاء استناداً إلى الأرشيف الإسرائيلي قصص الأجداد التي أصبحت موثّقة بمئات الآلاف من الساعات، ومنشورة على أكثر من موقع رسمي لها.
أجدادنا لم يكذبوا بقصة واحدة عن بشاعة ما حلّ بهم في النكبة عام 1948، بل إن بعضهم لم يذكر كل شيء عاشه ورآه وسمعه، إمّا خجلاً أو خشية أو هرباً من ذاكرة تحاصره. اليوم، أمام ما يجري في قطاع غزة، بات من الممكن أن نضرب مثالاً عما فعلته الصهيونية بالفلسطينيين، كإعادة إنتاج لتلك الجريمة التي ارتكبتها قبل أكثر من 75 عاماً، في مجازر موثّقة ومؤرّخة بعناية للتاريخ والحياة، وقد ارتكبت مثل تلك المجازر في بلاد عربية أخرى مثل مصر التي ارتكبت فيها مجزرة في مدرسة بحر البقر عام 1970، حين قتلت 30 طفلاً وأصابت 50، وكما فعلت في لبنان حين نفّذت مجزرة قانا عام 1996 لمّا قتلت أكثر من 106 مدنيين. كل تلك المجازر، وغيرها الكثير، هي إعادة إنتاج لبعض وقائع النكبة، لكن ما تخطط له إسرائيل مع قوى الغرب الأخرى وعلى رأسها أميركا، هي النكبة بكامل وقائعها، أي استكمال ما لم يتم عام 1948، عبر المجزرة والترهيب حتى الوصول إلى التهجير. وهنا تماماً تصح العودة إلى مفهوم «النكبة المستمرة» والانتباه إلى تفاصيل حدوثها عبر السنين الماضية، وآليات الصراع التي تدور، وفي مفصل آخر آليات العمل الوطني الفلسطيني عبر سنين طويلة، ومآلات القوى الفلسطينية التي قدّمت ما قدّمته في تاريخها النضالي والسياسي.
إنّ تلك الانتباهات التي تحتاج إلى تدقيق وتمحيص في التفاصيل، ستؤدي إلى نتائج حساسة. ولعل التدقيق في المسألة الأخيرة، وهي آليات العمل الوطني الفلسطيني، وحوامله الفصائلية، سيفسّر بعض الراهن، ولا سيما حين يتم التدقيق في داخل هذه القوى و«ميكانيزمات» عملها، ومنها تلك اليسارية التي أمست بلا تأثير سياسي أو اجتماعي، وأمست حركتها الحالية منسجمة فقط مع حركة الفاعلين القادرين فلسطينياً، وعلى وجه الخصوص «فتح» و«حماس»، حتى مع طرح المبادرات التي كان بعضها مهماً، إلا أن عوامل الضغط على الطرفين لم تكن متوفّرة، لأسباب عدة، منها أن قوى اليسار الفلسطيني لم تعد قادرة على التأثير، ولا تملك ثقلاً شعبياً يساعدها على ذلك.
هذه الحالة «الفتحاوية» تنهي «فتح» أو تحجمها، ولعلها تساهم في الإجابة عن سؤال طالما يتردّد «لماذا فتح في هذا الحال؟»


وهناك سبب آخر قد لا ينطبق على جميع القوى الفلسطينية، إلا أنه واقع على الغالبية ومؤثّر على البقية في أطر منظمة التحرير الفلسطينية المتآكلة. وهذا السبب هو ارتباط غالبية القوى بشكل شبه تام بالسلطة الفلسطينية، فصارت خاضعة تماماً لها، أمّا القوى التي تعارضت تماماً مع السلطة وقامت بانفصال عنها فأصبحت خاضعة لـ «إملاءات» أخرى.
أمّا حركة «فتح» فهي القصة، فقد أغرقت نفسها في السلطة الفلسطينية وتماهت معها إلى حدّ عدم التمييز بينهما، وبات أبناء «فتح» منهمكين بالدفاع عن السلطة وبعض مواقفها التي فيها خطايا بحق القضية الفلسطينية وشعبها.
واليوم تبدو «فتح» مجموعة من القيادات والأسماء في بعض المواقع، يشكل أصحابها عنوان المرحلة السياسية «الفتحاوية»، التي لا تنسجم مع كثير من «الفتحاويين» الذين ما زالوا على ديدن «فتح» الحقيقية، والأسماء كثيرة ولا مجال لذكرها. هؤلاء تم عزلهم عن مواقع صنع القرار، وتحييدهم جانباً، بل وترك «الإخوة» الصغار والملتحقين حديثاً في الحركة لغايات مختلف،ة منها مالية، أن ينالوا من هؤلاء أصحاب التاريخ النضالي والوطني المشهود له، وذلك بتوجيهات من «كوادر» في القيادة في رام الله وفي الأقاليم والسفارات في العالم. هذه الحالة «الفتحاوية» تنهي «فتح» أو تحجّمها، ولعلها تساهم في الإجابة عن سؤال طالما يتردد «لماذا فتح في هذا الحال؟»، وفي محاولة التوسع في الإجابة، فإن التنظيم الأرحب والأكثر جماهيرية على مر سني الثورة الفلسطينية المعاصرة، يخسر قاعدته الجماهيرية التي ساندته طويلاً، والتي كانت وبعضها ما زال (وكاتب السطور منها) تعول عليها، لأنها جامعة للشعب حتى من دون الانتماء إلى «فتح» تنظيمياً. واليوم بعض «فتح» يسأل لماذا تستهدفنا المؤامرات؟ والإجابة هي في الدور الذي قبلته قيادة «فتح»، وصمت الكوادر الفتحاوية الأصيلة على هذا «الهوان» المستمر منذ سنين، وعدم تطبيق القواعد التنظيمية للمساءلة والمحاسبة، والأهم عدم الحساب للحظة «الطوفان» التي أكلت وستأكل الجميع، وستقوم لمن يشاء ويأبى بكي وعيه، وإخضاعه لأسئلة ووقائع المرحلة الجديدة، بغضّ النظر عن نتائج الحرب الحالية.
أمّا حركة «حماس»، التي برعت في أن «تضلّل» الجميع، وتوهم بعضنا أنها تبحث عن «السلم» و«السلطة» فقط، لتضع العالم أجمع أمام «الطوفان»، فهي التي كما يبدو أنها تمسك بالمرحلة، سياسياً وعسكرياً وربما اجتماعياً إن أحسنت التعامل مع المرحلة القادمة، ويبدو أنها تحسن ذلك، بحسب تصريحات بعض قياداتها المؤثّرة؛ تصريحات جامعة لا تستثني أي أحد من الكل الفلسطيني السياسي. فـ«حماس» كما يبدو تبرع أيضاً في إدارة المرحلة، وتحسن التعامل معها، وتعمل على توزيع الأدوار على المعنيين بمن فيهم السلطة الفلسطينية (ربما) لتطوير إدارة المعركة السياسية على أكثر من صعيد.
لكن عند من سيصبّ هذا «الطوفان الفلسطيني»؟ بالتأكيد عند الشعب الذي عانى ويعاني، وذبح ويُذبح، وهجّره الاحتلال من قبل ويحاول اليوم تهجيره. والمطلوب من «حماس» في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ شعبنا الفلسطيني وتاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي أن تكون على مستوى تضحيات الشعب الفلسطيني الذي يحمل قضيته «أنّى توجّهت ركائبه». وعلى «حماس» التي يحترمها ويقدّرها الشعب الفلسطيني والعربي بغالبيته العظمى اليوم، أن تدرك بأن الشعب يحترم التاريخ ويقدّره، لكنه ينسف صانع التاريخ إن أخطأ في الحاضر أو في المستقبل. ولعل الشعب الفلسطيني من بين الشعوب العربية الأقدر على تحقيق إرادته، لأن أكثر ما يمكن أن يخسره هو أرضه، ولم يتنازل عنها، وظل يقاوم من أجلها حتى اللحظة الراهنة، وسيظل على عهده معها حتى يرفع «الكل الفلسطيني» علم فلسطين فوق كل المدن والقرى، ويوقّع مع «الكل الفلسطيني» على وعد الحرية والتحرير.