غزة - تواصل الدبابات الإسرائيلية عمليّاتها في المناطق الشمالية من قطاع غزة، ليحمل اليومان الماضيان تطوّرات بالغة الأهمية في محور القتال في مخيم جباليا، بعدما تمكّنت دبابات العدو من تنفيذ عملية تطويق للمخيم من عدّة جهات؛ الأولى هي الشمالية الغربية من ناحية مدينة بيت لاهيا، حيث وصلت المدرّعات إلى شارع بيت لاهيا الرئيسيّ، وأسقطت مناطق واسعة من تلك الأحياء بالنار. أمّا الجهة الثانية، فهي الجنوبية الغربية، من خلف «سجن أبو عبيدة» و»صالة الطيب»، والتي تمكّنت القوة المتوغّلة فيها من إسقاط منطقتَي الفالوجا والفاخورة بالنار، ثمّ توغّلت عميقاً داخل مشروع بيت لاهيا. كذلك، تقدّمت الدبابات من محور دوار التوام، ووصلت إلى مفترق الصفطاوي، ليضاف هذا إلى التقدّم السابق في محيط مستشفى «الإندونيسي» شرقي المخيم.
وعليه، تكون الدبابات الإسرائيلية قد تمكّنت من إطباق حصار شبه كلّي على مخيم جباليا. وبرغم ذلك، فإن حدّة الاشتباكات اتّخذت طابعاً نوعياً متصاعداً، إذ تشير معطيات ميدانية إلى أن المقاومين خاضوا مواجهات عنيفة جدّاً في مختلف محاور القتال المحيطة بالمخيم. ولم ينحصر الجهد الميداني في استهداف الآليات بقذائف «الياسين 105» و»التاندوم»، إنما تجاوز ذلك إلى تنفيذ عمليات التفاف والتحام مباشر خلف خطوط العدو في محورَي الصفطاوي ومدينة الشيخ زايد. ووفقاً لشهادات ميدانية، فإن مقاومي «كتائب القسام» و»سرايا القدس» تمكّنوا، خلال اليومَين الماضيين، من تفجير أكثر من 30 آلية في محيط مخيم جباليا وحده، بينما أعلن الناطق باسم «كتائب القسام»، أمس، «توثيق استهداف 335 آلية عسكرية صهيونية منذ بدء التوغل (...) و33 آلية في آخر 72 ساعة».
ويشير النسق الذي تتّخذه عمليات المقاومة خلال الأيام الخمسة الأخيرة، إلى انقلاب كلّي في تكتيك المواجهة، تحوّل فيه الجهد الميداني من التصدّي الفدائي لعرقلة تقدّم الدبابات، إلى استيعاب الهجوم وترشيد مستوى الخسائر، لاستدامة جيوب المقاومة لأكبر مدى زمني ممكن. ذلك لأن الوقت، وانعدام التقدير الزمني للفترة التي يمكن أن تمتدّ عليها هذه الحرب، أضحيا أهمّ العوامل التي تحدّد متطلّبات الميدان. وبالتالي، فإن الأولوية القائمة ليست رفع تكلفة التقدّم البرّي، إنما حرمان الدبابات والقوات المتوغّلة من أيّ فرصة للعمل «الهادئ» داخل المدن والأحياء السكنية. وفي هذا الإطار، أعلن أبو عبيدة «استهداف مجموعة راجلة للعدو في بيت حانون بعبوة مضادة للأفراد»، مضيفاً أن «أحد مجاهدينا هاجم 8 جنود شرق مستشفى الرنتيسي في حيّ الشيخ رضوان وأرداهم قتلى وجرحى»، كما «هاجمنا بالقنابل والأسلحة الرشاشة من مسافة صفر ناقلة جند للعدو أنزلت مجموعة من الجنود فأوقعنا خمسة قتلى يوم الثلاثاء».

التوغّل العميق قادم
حتى الساعة، تمكّنت القوات البرية للعدو من التوغّل في أكثر من 60% من مناطق شمال غزة، حيث أحياء وبلدات بأكملها من مثل بيت لاهيا، ومشروع بيت لاهيا، وبيت حانون وعزبة بيت حانون، والصفطاوي والتوام والعامودي وتل الزعتر والسكة، وبئر النعجة والفالوجا والسلاطين، أضحت كلّها تحت السيطرة الفعلية المباشرة لدبابات الاحتلال أو السيطرة بالنار. غير أن ذلك لم يمنع من تحويلها إلى نقاط تماس ومواجهة مشتعلة طوال الوقت. وعلى رغم التقدّم في تلك المناطق، فإنه من الملاحظ أن دبابات العدو وجنوده يحاذرون الدخول في الشوارع الضيّقة، التي تعطي الفرصة للمقاومين للهجوم على الآليات من مسافة صفر. كما يحاذر الجنود الخروج من آلياتهم والقيام بعمليات تمشيط جريئة بين الشوارع والكتل العمرانية.
التوغّل الراجل من شأنه أن يوفّر فرصة لإيقاع عدد أكبر من الخسائر


لكنّ ذلك النسق من العمل، الذي توكل فيه المهمّة الأوسع للطائرات التي تسوّي مناطق كاملة بالأرض، ويغيّب عنه العنصر البشري الفاعل الذي يختبئ في كتل من الحديد، ليس بوسعه أن يستمرّ طويلاً، لأن سلوكاً كهذا يحصر الدخول البرّي بمساحات الاستعراض والتخريب. وعليه، تقدّر مصادر ميدانية أن التوغّل العميق الراجل في مناطق الطوق حول مخيم جباليا، من شأنه أن يوفّر فرصة لإيقاع عدد أكبر من الخسائر البشرية. ويستشهد المصدر الميداني بكمائن جحر الديك، حيث «لا يطمئنّ العدو إلى العمل الجريء من الأرض، سوى بعد مكوثه في أيّ منطقة لمدّة تزيد على الأيام العشرة، وبعدها يبدأ التمشيط الراجل، ويخرج الجنود من آلياتهم، ثمّ تنطلق الكمائن المميتة (…) الوقت ليس في مصلحة العدو، صاحب الأرض لديه المرونة لتطويع أيّ موقف ضاغط للعمل المنجز».

غرق في جحر الديك
تُعتبر جحر الديك هي المنطقة البينيّة، وتتوسّط وادي غزة، وتلي حيّ الزيتون الذي يقع في الجنوب الشرقي من مدينة غزة. هناك، تدور منذ أكثر من 20 يوماً مواجهات عنيفة جداً، استغلّ فيها المقاومون المساحات الحرجية والأشجار، لتنفيذ العشرات من الإغارات القاتلة التي التحموا فيها مع العدو من مسافة عدّة أمتار. آخر تلك الكمائن نفّذه مقاومو «القسّام» بحق قوّة راجلة تتكوّن من أكثر من 10 جنود، وتمكّنوا خلاله من تفجير عدّة عبوات ناسفة. وفي تلك المنطقة أيضاً، لمع نجم عبوات العمل الفدائي، لأن المسافة بين الدبابات المتوغّلة والمقاومين، أضحت صفرية. نموذج جحر الديك ذاته، تكرّر في مناطق بيت حانون والشاطئ، حيث تنوب البنايات المدمّرة والركام عن الأشجار، ويخرج المقاومون من بينها لضرب الدبابات. وأمام التطويع المستمرّ لعوامل الجغرافيا، يبدو الوصول إلى مرحلة القضاء على جيوب المقاومة التي ستستمرّ في تكوين نفسها وتحديث أساليبها، بعيد المنال.