عندما تمّت «مصالحة العلا» بين قطر و«رباعيّ الحصار» في كانون الثاني 2021، بعد أربع سنوات من حصار الدولة الخليجية الصغيرة والتهديد بالإطاحة بنظامها، كان الرئيس الإماراتي، محمد بن زايد (وليّ عهد أبو ظبي وإنّما الحاكم الفعلي في ذلك الحين)، الأقلّ حماسة بين قادة دول «الرباعي»، والتي تشمل بالإضافة إلى الإمارات، مصر والسعودية والبحرين، لتلك المصالحة، حتى ليمكن القول إنه كان رافضاً لها من الأساس. وعندما نُظّمت نهائيات كأس العالم في قطر، في خريف العام الماضي، كان ابن زايد من القلائل في الخليج الذين لم يحضروا الافتتاح، لا بل كاد الإعلام الإماراتي يتجاهل ذلك الحدث الضخم تماماً. أيضاً، أبقت أبو ظبي، منذ «لقاء العلا»، على القطيعة مع الدوحة، ولم تتبادل السفراء معها مثلما فعلت الرياض.لكن قبل أيام قليلة، وبلا أيّ مقدّمات، زار ابن زايد قطر، متجاوزاً كلّ أحقاده الشخصية على تميم بن حمد، بعد أن تآمر مع وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، للإطاحة بأمير قطر قبل سنوات قليلة. وحرص الرئيس الإماراتي على تقديم زيارته كبادرة تجاه الدوحة، بمفعول رجعي، إذ أشاد فيها باستضافة قطر لكأس العالم لكرة القدم بوصفها «نجاحاً وشرفاً لجميع» دول الخليج والعالم العربي، رغم أن الزيارة كانت للمشاركة في حدث آخر هو «إكسبو الدوحة 2023 للبستنة». ثمّ بعد يومين من ذلك، تسلّم أوراق اعتماد السفير القطري الجديد، سلطان بن سالمين المنصوري، في حين كان السفير الإماراتي المعيّن لدى الدوحة، زايد بن خليفة بن سلطان بن شخبوط آل نهيان، قد أدّى اليمين الدستورية أمام ابن زايد في آب الماضي.
في قاموس ابن زايد، الذي نشأ على خليط من التربيتَين القبَلية والعسكرية البريطانية، الميكيافيلية هي القاعدة، ما يعني أن الغاية دائماً تبرّر الوسيلة. والرجل يعاني ما يعانيه حالياً من «جور» ابن سلمان، الذي «وضع الإمارات في رأسه»، كما يبدو، مستهدفاً الاستيلاء على دورها كمركز تجاري وسياحي في الشرق الأوسط، والذي لعبته طوال العقود الماضية بالنيابة عن السعودية التي لم تكن تستطيع تحت ثنائية آل سعود – آل عبد الوهاب تأدية هذا الدور بنفسها. ورغم أن تميم نفسه يطوّر دولته بهدف مقاسمة الإمارات ذلك الدور، إلّا أن خطره يكاد لا يساوي شيئاً أمام الخطر الآتي من صوب الجار الجنوبي، ولا سيما مع السعي السعودي الحثيث إلى الاضطلاع بمهمّة الوجهة الاقتصادية الأولى في الخليج. وها هو ابن سلمان يستعدّ لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، بما يعني أن رئيس الإمارات لن يستطيع حتى الاستقواء بدولة الاحتلال في مواجهته المفتوحة مع الأوّل.
الأميركيون لا يمانعون الخلافات بين الدول الخليجية، أو تآمر دولتين أو ثلاث على واحدة، ما دام ذلك يجعل الجميع في حاجة إليهم


وبلا شكّ، على المنوال الذي تجري عليه الأمور في الخليج، لا مانع لدى أمير قطر، من تحسين العلاقات مع الإمارات. وحتى إذا كان الأمير لا يأمن جانب ابن زايد، إلّا أنه ليس من السهل على القيادة السياسية في قطر أن تنسى أنه لولا ابن سلمان، لما كانت الدول الثلاث الأخرى استطاعت فعل شيء ضدّها، ولما اضطرّت قطر إلى مكابدة ما كابدته من حصار طاول حتى حليب الأطفال، ودفَعها إلى تفعيل خطط عاجلة بديلة للاستيراد من إيران وتركيا، فضلاً عن أجواء الخوف التي أثارها لدى القطريين احتمالُ الإطاحة بأميرهم، أي بدولة الرفاه التي يعيشون في ظلّها، والأثر النفسي لتهديد ابن سلمان بحفر قناة على الحدود مع الدولة وملئها بالتماسيح وأسماك القرش. وما يجدر التذكير به، هنا، أن الأميركيين لا يمانعون الخلافات بين الدول الخليجية، أو تآمر دولتين أو ثلاثٍ على واحدة، ما دام ذلك يجعل الجميع في حاجة إليهم، بشرط أن لا تخلّ تلك الخلافات بالتركيبة القائمة إخلالاً كبيراً. ولهذا، لم يوافقوا على خطّة إطاحة أمير قطر السعودية - الإماراتية، واستمع رئيسهم السابق، دونالد ترامب، إلى نصيحة أمير الكويت الراحل، صباح الأحمد، بوقف المخطّط المذكور.
لكن من غير المرجح أن تنقاد الدوحة، المعروفة بسياستها الخارجية التي توظّفها، مع ذراعها المالية الطويلة، في تعظيم دورها السياسي الخارجي، ولو تحت الجناح الأميركي، وراء مشاريع ابن زايد. ومن غير المرجّح بالذات أن تلعب دوراً في تقويض عملية السلام الجارية في اليمن، وهي التي انسحبت من تحالف العدوان في الأيام الأولى لإقامته عام 2015، ولم تطلق لو طلقة واحدة في إطار عملياته، حتى لو عادت أخيراً إلى الاهتمام بالملف اليمني. ويؤكد بعض المغرّدين على منصة «X» تلك الوجهة بالقول إن تميم «اعتذر عن مناقشة التنسيق مع الإمارات في الملفّ اليمني»، الذي يمثّل الميدان الرئيسي للصراع الإماراتي - السعودي، حيث تملك أبو ظبي نفوذاً كبيراً تسعى عبره إلى عرقلة طريق ابن سلمان، ومنعه من الخروج من الورطة اليمنية، في حين أن الأخير يسعى إلى ترتيبات مع حركة «أنصار الله» تُخرج أبو ظبي من اليمن نهائياً إذا أمكن.
الأمر الأساسي الذي يمكن أن يجتمع عليه ابن زايد وتميم، هو محاولة الحدّ من طموح ابن سلمان للهيمنة على الخليج، لا سيما عبر الأدوار الكبيرة التي يحاول حاكم السعودية الفعلي أن يلعبها، والتي يتخوّف الزعيمان من أن تأتي على حساب دورَيهما، خصوصاً وسط ما بدأ يتبلور من اتفاق أو معاهدة عسكرية أمنية سعودية - أميركية، يستخدم ابن سلمان عدداً من الأوراق في محاولة ابتزاز واشنطن للتوصّل إليها، وفق صيغة تحمي نظامه وتكرّس دوره في الشرق الأوسط والعالم، حتى يوافق على التطبيع مع إسرائيل كثمن لمثل هذه المعاهدة. لكن سيتعيّن على زعيمَي قطر والإمارات، بدورهما، استخدام أوراق كثيرة يملكانها، لإقناع الولايات المتحدة بإقامة نوع من التوازن بينهما وبين ابن سلمان، كما فعلت تماماً حين رفضت الانقياد وراء الرياض وأبو ظبي للإطاحة بتميم.