نجوان درويش«مادة من أجل فيلم»، مشروع بدأته جاسر عام 2005 كمشروع متواصل in progress، قائم على البحث. يبدو العمل الفني هنا تقصّياً للمصائر، وبحثاً فيها، تماماً كما هو الأمر في العمل الروائي الذي يتابع مصير شخصياته ويكشف الجزء الضائع من حيواتهم. يجمع هذا التجهيز بين الصورة والسينما والأصوات والمواد الأرشيفية، ويكاد أن يكون «ثأراً» فنياً لوائل زعيتر الذي أثار اغتياله استنكاراً لم تخف حدته رغم مرور 35 سنة على تلك الجريمة. وكان ستيفن سبيلبرغ قد توقّف عند مشهد اغتيال وائل زعيتر، في فيلمه «ميونيخ».
إميلي جاسر بحثت عن وائل في كل مكان تقريباً. قصدت أصدقاءه وصديقاته في إيطاليا بعد أكثر من ثلاثين سنة، وبحثت عن كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي كان معه لحظة اغتياله. ثم صوّرته واستعملته في عملها التركيبي الذي وضعت فيه ألف مجسم لكتب ليس فيها أي كلمة، فقط ثقوب رصاص أحدثتها الفنانة بنوع المسدس نفسه الذي استعمله الموساد في اغتيال زعيتر. وذهبت إميلي إلى شقيقته نائلة في نابلس، وتفحّصت البيت الذي قضى فيه وائل طفولته. وفي روما، قضت ساعات في شقته في ساحة أنيباليانو في الطبقة السابعة من عمارة رقم 20. التقطت صوراً لتفاصيل رئيسية وهوامش في محاولة لتقصّي أثره، كما يفعل الروائي مع شخصياته.
بدأت قصة العمل، كما تقول جاسر، من خلال فصل في كتاب لصديقة وائل جانيت فين برون صدر عام 1979، بعنوان: «من أجل فلسطيني: تذكار إلى وائل زعيتر». أما عنوان الفصل الذي أثار اهتمام جاسر، فهو «مادة من أجل فيلم لإليو بيتري وأوغو بيررو». الفصل عبارة عن حوارات أجريت مع أشخاص عرفوا وائل أثناء حياته في روما، بينهم صديقته جانيت نفسها. وكانت المادة نواة فيلم لبيتري وبيررو لم ينجز بسبب رحيل الأوّل. هذه نقطة انطلاق التجهيز: حاولت إميلي أن تكمل الفيلم على طريقتها... أو بالأحرى واصلت جمع المادة اللازمة كمن يعيد لملمة حياة لم يتوافر لها وقت كاف لجمع نفسها، فصارت استعارة من الحياة الفلسطينية بأكملها.
ولدت إميلي جاسر في بيت لحم عام 1970، ونشأت في السعودية وأكملت الدراسة الثانوية في روما، ثم تابعت دراستها الجامعية بين ولايتي تكساس وتينيسي في الولايات المتحدة. وهي تعيش اليوم بين نيويورك ورام الله. وبين أعمالها نشير إلى «عبور سُردا» (تجهيز فيديو ــــ 2002) الذي يسجّل تجربة إميلي في عبور حاجز سُردا الذي طالما نكّل بأهالي ثلاثين قرية محيطة برام الله، بينهم طلاب جامعة بير زيت. وفي عام 2003، قدّمت عملاً لافتاً بعنوان «من أين نأتي؟» بدأته بسؤال مَن لا يستطيعون بلوغ فلسطين والتجول فيها بحرية، عمّا يمكنها أن تفعله نيابةً عنهم (بفضل جواز سفرها الأميركي الذي يتيح لها حرية الحركة). تلقّت بعض الطلبات المؤثرة المتباينة ونفذتها جميعاً. كانت كل مرّة تسجل نص الطلب وتلتقط صورة تعبّر عنه، مع تجربتها الشخصية في تنفيذه: مِن قطف برتقالة في بيارة وأكلها في البيارة نفسها... إلى ريّ شجرة في قرية مهجّرة، و«الذهاب إلى حيفا ولعب كرة القدم مع أول طفل فلسطيني تلتقيه في الطريق»، كما طلبت منها هناء المولودة في بيروت والمقيمة في هيوستن.



مروّة وأبي سمرا وسلهب: «إعادات» من زمن الحرب

على برنامج «أشغال داخليّة ــــ ٤»، بعض الأعمال اللبنانيّة اللافتة التي قدّمت سابقاً في مناسبات مختلفة، لكنّها تستعيد هنا كلّ أهميّتها في سياق العروض والمحاضرات والمعارض والأعمال المختلفة التي تتجاور وتتحاور ضمن فضاء افتراضي، هو داخل المدينة وخارجها في آن معاً.
نشير بين «الإعادات»، إذا جازت التسمية، إلى ثلاث تجارب يجمع بينها همّ تصوير الحرب أو استعادتها، وفي كل الأحوال البحث عن أشكال (وتقنيات) سردها المحتملة. الحرب الأهليّة اللبنانيّة بالنسبة إلى ربيع مروّة في «كم تمنّت نانسي لو أن كلّ ما حدث ليس سوى كذبة نيسان» (مسرحيّة؟)، وحرب تموّز ٢٠٠٦ بالنسبة إلى ماهر أبي سمرا في «مجرّد رائحة» ( فيديو ـــــ 10 دقائق) وغسّان سلهب Posthume أو «بعد الموت» (فيديو ـــــ 28 دقيقة). والفنانون الثلاثة ينتمون، كلّ على طريقته، إلى هذا الجيل الباحث عن قوالب ولغات وأدوات تعبير مغايرة، لقول المعاناة وطرح الأسئلة بطريقة أكثر تعقيداً والتباساً، وأكثر استدعاءً لمشاركة المتلقّي وثقافته وحساسيّته.
قد تكون الفرصة الأخيرة لمشاهدة «نانسي» (نص فادي توفيق، مع ربيع مروّة، لينا صانع، حاتم إمام، زياد عنتر)، لمن فاتته عروض الشتاء الماضي، واللغط الذي أثير حولها بسبب محاولات منعها. المسرحيّة (لنسمّها كذلك)، غوص في ذاكرة الحرب انطلاقاً من شهادات «الشهداء» عبر مختلف حيواتهم وتحولاتهم السياسيّة... وقوامها اللعب على السردي والتوثيقي والبصري، من خلال اللعب على ملصقات الشهداء. وقد أثارت انتقادات لجهة الخلط بين الجانب التأريخي للحرب والجانب الإبداعي الذي يسمح للفنّان بكل التهويمات والتجاوزات. (مسرح المدينة ــــ الثلاثاء ١٥/٤، العاشرة ليلاً).
أما شريط ماهر أبي سمرا، «مجرّد رائحة»، الذي ينطلق من جملة لجان جينيه في «4 ساعات في شاتيلا»، فهو من دون شكّ من أقوى ما أنتج خلال حرب تموز وبعدها. الفيديو بالأبيض والأسود، يقتصد في اللون، يقتصد في الحركة، يقتصد في الكلام... كأنما ليقول هول المجزرة وفظاعة الحداد. لقطات ثابتة وقليلة، فيها من العنف المضمر، والقهر المبطّن ما يتناقض مع الهدوء الظاهري للعمل. (المدينة ــــ الأحد ١٣/٤، ١١ ليلاً)
وأخيراً غسان سلهب الذي يرثي المدينة في Posthume، عمله الفيديو القريب من السينما. يعيشها بعد موتها من خلال آثار الحرب والدمار، تداعيات وتأملات فلسفيّة، لقطات ثابتة لوجوه قلقة حائرة أو عدائيّة مطبوعة فوق المشهد أحياناً (ممثّلوه الدائمون عوني قواس، كارول عبّود، ربيع مروّة، عبلة خوري، عصام بو خالد، فادي أبي سمرا). البحر وصور التلفزيون وصوت الإذاعة. لقطات لجنود إسرائيليين يتقدمون. الخراب ورفع الردم. الكاميرا تجول في بيروت والضاحية والجنوب. اللقطات تسير إلى الخلف، وتختلط بسواها. يكتب غسان على الصورة أو بمحاذاتها. ويبقى من الفيلم هذا السؤال: «ولكن كيف للأموات أن يشاهدوا موتهم؟». (المدينة ــــ السبت ١٩ نيسان، ١٢ ظهراً).
ولا بدّ من الإشارة إلى عمل آخر لافت في سياق الإعادات، هو «شفت منام، ماما» للينا صانع (فيديو، ٤٥ د).