strong>رلى راشد
“وضعتُ يديّ على وجهٍ/ ثم نزعتهما مُصابَتين حُبّاً/ بات النسيان الآن/ هو الذي يحنّ الى يديّ”. يختزل هذا البيت الشعري رحلة الإسباني انطونيو غامونيدا (76 عاماً)، المُتمرّد العقائدي الواقف على قاب قوسين من غضب التركي ناظم حكمت وسوداوية لوركا.
هذا الصوت الفطري الذي يتأرجح بين الحسّية والوعي المُقاوم، كرّمته أخيراً جائزة “ثرفانتس” الأدبية المرموقة عن ديوانه “بلوز قشتالي” (Blues Castillan) الذي تُرجم الى لغات عدة. هكذا، سمحت هذه الجائزة التي تعدّ بمثابة نوبل اللغة الاسبانية، لابن بلدة أوفييدو الاسبانية، أن ينضم الى قائمة حافلة بقامات أدبية من مصاف خورخي لويس بورخيس وميغيل ديليبس. توقّفت لجنة الجائزة (تبلغ قيمتها نحو 90 الف يورو) ملياً عند “المعاناة المُمتعة” في منجز هذا الشاعر الخصب. فيما رأى غامونيدا، فور تبلّغه الخبر، أن هذا التميّز سيثُقل كاهله، ويسلبه وضعية المرشح الأزليّ للجائزة... موضحاً أن تلك الوضعية كانت قد أمست بالنسبة اليه بمثابة المهنة الثانية!
في الواقع، تأخّر كثيراً الاعتراف بموهبة غامونيدا الاستثنائية التي تجلّت منذ إصدار باكورته الشعرية “انتفاضة جامدة” (1966) التي تفلت من أي تزمّت واقعي. والإشكاليّة التي أحاطت بتجربته، تمثّلت في إلحاقِه قَسراً بجيل الخمسينيات الشعري في إسبانيا. فيما صاحب “حجارة محفورة” الذي ينتمي كرونولوجياً الى تلك الحقبة، لاذ بخانة مُنفصلة، واختار لنفسه جغرافيا “محايدة” تقع بين مختلف التيارات الشعريّة.
استسلم غامونيدا لإرادة الدقّة والصرامة والنوعيّة، ليقطّر شعراً يرشح بالوعي الأخلاقي الذي طبع سنوات مقاومة “الفرانكيّة”. وقد نال الشاعر قسطه من الظلاميّة والرقابة خلال ديكتاتورية الجنرال فرانكو، إذ حالت دون نشر ديوانه “بلوز قشتالي” الذي مكث في الأدراج نحو عقدين... ولم يُفرج عن قصائده إلا في عام 1982. بعد وفاة فرانكو، اعتصم غامونيدا بالصمت لمدة سنتين بسبب “الإحباط العقائدي”. الاّ أن القدر الشعري الذي لا فكاك منه، عاد ليُطارده مُجدداً في “وَصف الكذبة” (1977) و“كتاب الصقيع” (1992) الذي كشف فيه مرّة جديدة عن شاعر تسكنه ثنائيّة العشق والموت: “آت من غاز المثيلين ومن الحب، لقد تسلّل البرد اليّ من تحت أنابيب الهلاك/ الآن أتأمّل البحر. لا ينتابني خوف ولا أملك أملاً”.
غامونيدا الذي سبق أن نال “الجائزة الوطنية للشعر” عن “عُمر” (1986)، وجائزة “الملكة صوفيا للشعر الإيبيري الأميركي” في أيار (مايو) الماضي، ينظر الى الشعر بصفته فنّ الذاكرة بامتياز. “الذاكرة هي وعي للخسارة، وعي لما فارقَنا ولما ليس موجوداً... وعي للدنو التدريجي للموت”، كما يقول. وهذا الهاجس ترجمه لغةً مكثفة، تكتنف في طياتها بُعداً باطنياً وتعبيرياً. باتت كلمات غامونيدا عضويّة بالنسبة الى المؤمنين بالشعر يكتفي بالمقارَبة فقط، تحت شروط الحساسية العالية... شعر لا يخضع، بالضرورة، الى قواعد الإدراك العقلي. أو ليسَ في هذا المنحى ما يختصر ماهيّة الشعر برمّته؟