في الطبقة الثالثة من «بيت بيروت» في منطقة السوديكو، معرض فوتوغرافي لرالف الحج منحه عنوان «تاريخ ثلاث حروب» يستمر حتى الثلاثين من آب (أغسطس) الحالي ويشتمل على سبع لوحات رقميّة، فضلاً عن صور ونصوص توثّق لتجربة الحج الشخصية وذاكرته المتّصلة بعنف الحروب والمآسي التي شهدها لبنان، منطلقاً من الأمس القريب مع صور التقطها لحطام منزله من جرّاء انفجار مرفأ بيروت المشؤوم قبل أعوام ثلاثة. يوغل بعدها في الماضي مع ذكريات جدته عن المجاعة التي أصابت البلد خلال الحرب العالمية الأولى.
«سفينة الحمقى» (طباعة على كانفاس ــ 2004/2023)

لوحات الحج في معرضه الحاليّ ضخمة، تجمع الفوتوغرافيا والرسم والكولاج، مستحضراً فيها وجوهاً فقدها، ومدينةً ومنزلاً فقدهما، وغايته مقاومة النسيان وإحياء الذاكرة من خلال الفن والتوثيق والشهادات. تطال ذاكرته الفنية سنوات الحرب الأهلية، ومنها رجوعاً إلى الماضي الأبعد والمجاعة الكبرى بين عامَي 1915 – 1918، التي قضى فيها نحو مئتي ألف لبنانيّ. وبالتالي نحن أمام شريط مأساوي ممتدّ على قرن ونيّف لم يأخذ فيه الوطن المنكوب سوى استراحات قليلة من سنيّ الهناء.
يعقد الحج صلة فوتوغرافية بين تلك الحِقَب العجاف وينتظمها في سياق تعبيريّ رغم الفروق الزمنية وتبدّل أحوال البلد وتقلّبه بين الأزمات على نار المجاعة والحرب الأهلية وانفجار المرفأ المفجع، ليروي ويستعيد عنفاً مستديماً ومتكرّراً يقوّض آمال اللبنانيين بحياة طبيعيّة آمنة. وإذا كانت فاتته مجاعة القرن الفائت التي لم تفت جدّته، إلا أنّه كان شاهداً على فظائع الحرب الأهلية والانفجار الكبير وما بينهما.
مساره التعبيريّ ينطلق اليوم بكتاب رقميّ نُشر بعض أقسامه مرفقاً بصور فوتوغرافية لمنزله المهدم وفيه مائدة الطعام التي كانت تجمع حولها عائلته يومياً، وللجدران وأسرارها الكثيرة، ولكلّ غرض وأثر وتحفة صغيرة (كالتمثال الذي صنعه في السادسة عشرة من عمره). وحتى لقبضة باب المطبخ التي بقيت متدلّية كأنّها تأبى السقوط وتقاومه. هذه الجزئيّات يجمعها الفنان مثل قطع بازل ويعيد تركيبها. يكشف الحج أنّ في منزله العائليّ أغراضاً وحاجيّات يذكّر كلٌّ منها بصفحة أو زمن من صفحات المآسي والحروب وأزمنتها.

«خريف» (طباعة على كانفاس ــ 120 × 82 سنتم ــ 2017/2023)


من دون عنوان (طباعة على كانفاس ــ 440 × 120 سنتم ــ 2020/2023)

تتوزّع أعمال المعرض دائريّاً في «بيت بيروت»، فنقف أمام لوحة تحمل عنوان «صار شي» يغمرها اللون الأحمر تلطيخاً و«خربشات» وخيوط سوداء، وناس محتشدون نقاطاً صغيرة متلاصقة، ووجوه رمادية وعيون جاحظة، في حين ترتكز لوحة «سفينة الحمقى» على فكرة أنّ الهوية تحتاج إلى العداء كي تبقى صلبة. فضاء أسود مظلم بالكاد نلمح أطيافه. ثمة شخص تخرج من رأسه أفكار بالأحمر والأصفر على خلفية سوداء. ينجز الحج رؤى كهذه بتقنية «كيارو سكورو» التي تُبرز تضادّاً بين الضوء والظلّ، فتحثّنا على توجيه تركيزنا إلى عنصر واحد فقط في اللوحة محاط بالظلمة. في لوحة أخرى، يجمع الطفولة والشيخوخة (متمثلة في يدي عجوز متجعّدتين) كأنّه يروي حياة كاملة من خلال الاستعانة بالفوتوشوب. وفي لوحة «حلم رأيته»، يضع وجهه الخاص المشوب بالخيال وأحلام اليقظة.
تطال ذاكرته الفنية سنوات الحرب الأهلية، ومنها رجوعاً إلى المجاعة الكبرى التي قضى فيها نحو مئتي ألف لبنانيّ

يوضح الحج: «تجمع أعمالي بين تقنيات فنية وتعبيريّة متنوّعة، من رسم وكولاج وفوتوغرافيا. بدأت أهيّئ لمعرضي هذا منذ عام 2022 واعتمدتُ في كل لوحة توازناً جيومتريّاً هندسيّاً مضيت فيه إلى ما لا نهاية، لجعل العناصر متداخلة بين خيال وواقع». وما يقوله الحج بادٍ بوضوح في معرضه، فعوالمه متداخلة فعلاً، ضمن حيّز المدينة المنكوبة، بل الوطن المنكوب، فوجوه الضحايا مكدّسة في عتمة الأحياء والشوارع. هو لا يسرد حالة خاصة فحسب، بل أيضاً جماعية تؤكّد فداحة المأساة.
يعتمد الحج أسلوباً بسيطاً لا يخرج عن المألوف في ما نشاهده عادةً في معارض فوتوغرافية أو متعددة الوسائط، فهو يروي بسلاسة وبساطةٍ لا تشوبهما تعقيدات فنية أو تقنية، بل يتعمّد أن تبقى لغته الفنيّة قريبة قدر المستطاع من الواقع والتاريخ.

* «تاريخ ثلاث حروب»: حتى 30 آب (أغسطس) ـــ «بيت بيروت» (السوديكو)