التفريق بين الموقف الأميركي الرسمي من «إسرائيل الدولة»، والموقف من الحكومة الإسرائيلية الحالية، يَجدر أن يكون المحدّد الأهمّ والأكثر حضوراً في محاولات تقييم واقع العلاقة بين واشنطن وتل أبيب. صحيح أن ثمّة أزمة حقيقية وجفاءً بائناً في ما بين الطرفَين، إلّا أن تأثيرات ذلك لن تنسحب، أقلّه في المدى المنظور، على العلاقات الأمنية والسياسية بين «الدولتَين»، أو تتسبّب بما يمكن أن يضرّ بمصالح الكيان. ومع ذلك، تبدو الأزمة الحالية وقد اقتربت من الحدّ الخطر، وإن كانت لا تزال بينها وبينه احتمالات وسيناريوات متفاوتة، مرتبطة أوّلاً بمآل الأزمة الداخلية الإسرائيلية، وثانياً، بتنامي تيّارات في الداخل الأميركي مناهضة لإسرائيل. وليس دونما دلالة، في السياق المشار إليه، تصريح عضوة مجلس النواب الأميركي، براميلا جايبال، قبل أيام، والذي قالت فيه إن «إسرائيل دولة عنصرية»، قبل أن تتراجع عنه تحت الضغوط، وتوضح أنها كانت تقصد أن حكومة بنيامين نتنياهو «تتبنّى سياسة عنصرية، ويديرها العنصريون المتطرّفون». والجدير ذكره، هنا، أن جايبال هي نائبة عن الحزب الديموقراطي من ولاية واشنطن، وهي ترأس الفصيل التقدّمي في حزبها والذي يضمّ حوالى 103 نواب من أصل 212 ديموقراطياً في مجلس النواب. وإذ عمد الجمهوريون إلى استغلال الضجّة التي أثارها تصريحها من أجل طرح مشروع قرار يحظر وسْم إسرائيل بـ«العنصرية» أو «التفرقة العنصرية» ويدين معاداة السامية، فإن معظم الديموقراطيين اضطرّوا للتصويت لصالح القرار خوفاً من تبعات معارضتهم له، على رغم القناعة السائدة في صفوف الكثيرين منهم بعنصرية «إسرائيل الدولة»، وليس حكّامها فقط.المثال المشار إليه يؤكد أن ثمّة اتّجاهاً كارهاً لإسرائيل متنامياً في الولايات المتحدة، وتحديداً داخل الحزب الديموقراطي، ولكنه إلى الآن لا يزال بلا أسنان؛ إذ إن أصحابه، بما يشمل معظم من يصفون أنفسهم بـالديموقراطيين التقدّميين، وعلى رغم تأكيد تمسّكهم بـ«حلّ الدولتين» وبالعملية السياسية ورفضهم الاستيطان، إلّا أنهم يمتنعون عن الإقدام على ما يمكن أن يضرّ بـ«إسرائيل الدولة». ومع أن هؤلاء وجدوا في الانقسام الداخلي الإسرائيلي حول خطّة «الإصلاحات القضائية» فرصة لتصعيد انتقاداتهم للكيان وحكومته بما يشمل سياساتها ضدّ الفلسطينيين، وصولاً في بعض الأحيان إلى تصريحات منفلتة، غير أن معظمهم يؤيّدون وجود إسرائيل، واستمرار المساعدة العسكرية الممنوحة لها، ويعارضون محاولات «نزع الشرعية» عنها. ومع هذا، يمكن القول إن الديموقراطيين اليوم أقلّ تأييداً لدولة الاحتلال ممّا كانوا عليه منذ عقود، فيما يبدو لافتاً أن من يقود «اتّجاه التغيير» ذاك هم يهود أميركيون، بثقلهم المالي ونفوذهم في الرأي العام عير منصّاتهم الإعلامية. وعلى أيّ حال، فإن إمكانية تحوّل ذلك التغيير إلى معارضة بأنياب وأذرع يبدو مرتبطاً بمجموعة عوامل لا تزال في طور التشكّل، وقد يكون من المبكر الجزم بمصيرها.
دخلت العلاقات مع الولايات المتحدة ضمن «بازار» التجاذب الحاصل بين الإسرائيليين


أمّا في إسرائيل، فتَظهر الأمور أكثر تعقيداً؛ إذ دخلت العلاقات مع الولايات المتحدة ضمن «بازار» التجاذب الحاصل بين الإسرائيليين، إلى حدّ باتت معه المغالطات هي الغالبة على الوقائع. وفي هذا الإطار، لا يتوانى قادة المعارضة وقادة الاحتجاجات عن تلقّف أيّ موقف يَصدر عن واشنطن، بغضّ النظر عن سياقه وهدفه الفعلي، من أجل استخدامه كوسيلة قتالية ضدّ حكومة نتيناهو، إلى حدّ يخال معه الرائي أن الأزمة التي «تَسبّب بها نتنياهو» في العلاقات مع الولايات المتحدة، تكاد تُحلّ التباعد محلّ التحالف، والعداء مكان الصداقة والشراكة. وفي المقابل، يبالغ نتنياهو والموالون له في التقليل من أهميّة ما يَصدر عن واشنطن، وتثقيل مكانة إسرائيل لدى الحزبَين الأميركيَين الرئيسَين والجمهور على السواء، والتأكيد أنه مهما حصل، فإن الولايات المتحدة لا يمكن أن تجازف بشراكتها مع الدولة العبرية، لا بل إن ثمّة جماعة وازنة في الائتلاف ترى أن أميركا أكثر احتياجاً إلى إسرائيل ممّا هي الأخيرة بالنسبة إلى الأولى. وإذ يتساوق ذلك مع تأكيد الأميركيين أنفسهم أن المشكلة هي مع حكومة نتنياهو تحديداً، وليست مع «إسرائيل الدولة»، فإن مناصري الائتلاف يجدون بهذا البوّابة الأنسب للتشديد على أن الضغط الأميركي لا يرقى إلى الحدّ الذي لا يمكن مواجهته أو صدّه، وبالتالي، فإن إمكانية التعنّت في الموقف تظلّ قائمة، وصولاً حتى إلى استثمار هذا التعنّت لدى الناخب اليميني، الذي سيثمّن هكذا مواقف معاندة للإرادة الأميركية، لمصلحة الأهداف اليمينية في إسرائيل.
وبمعزل عن تلك المبالغات المتضادّة في إسرائيل، فالأكيد أن مسار التباعد مع الولايات المتحدة قد بدأ فعلياً، لكنه مسار طويل، ومن غير المعلوم حدوده النهائية، وهو ما يستوجب الابتعاد عن التمنّيات في قراءته واستشرافه. وفي انتظار ما سيحمله المستقبل على هذا الصعيد، يبدو محسوماً أن البيت الأبيض سيحاول، بين الحين والآخر خصوصاً عندما يكون ساكنه ديموقراطياً، اتّخاذ خطوات سياسية ذات دلالة تمالئ التيّارات التقدّمية لضرورات السياسة الداخلية، وهو ما سيكون من شأنه إزعاج القيادة الإسرائيلية؛ لكن في الوقت نفسه، ستستمرّ الإدارة الأميركية في تأكيد التفريق بين موقفها من «إسرائيل الدولة» وموقفها من المتطرّفين فيها، وهو ما يعني تواصُل الدعم العسكري والأمني للكيان، الذي لن يتأثّر، والحال هذه بما يَجري من حوله ومن فوقه.