«سيماهم في وجوههم» من أثر «الترامادول». هؤلاء الذين يُعرفون في مصر باسم «المِترملين» أي الذين يكثرون من تعاطي «الترامادول». المخدر الذي يُعد في قانون مصر مادة علاجية «مجدولة»، أي إنها تصبح كالمخدرات في حال صُرفت من دون وصفة طبية أو إذا تاجر فيها أشخاص ليسوا بصيادلة.
تاريخ شديد الإيجاز للفراولة
في العقد الأخير تقريباً، في أعقاب ما يُعرف بالربيع العربي الذي بدأ عام 2011، ارتفع عدد متعاطي المخدرات في مصر بشكل غير مسبوق بسبب الانفلات الأمني الحاصل. استطاع «الترامادول» أن يحتل موقعاً متميزاً على مائدة المخدرات، حتى أنه أزاح المُخدر التقليدي في مصر - الحشيش- من صدارته وحتى الـ«كيف» المصري. لقد اكتُشف في «الترامادول» سرٌّ كان سبباً وراء تفشيه واتساع شعبيته. فبعد تعاطي «الترامادول»، وبعد أن تصبح «الدماغ عالية»، يُسهم «الترامادول» في تنشيط الجسم، ولا يسبب حالة خمول، كما أنه يسكن آلام الجسد ولو بشكل مؤقت، ما أنعش الذاكرة بذكرى «الأفيون» الذي جرّمته الحكومة المصرية منذ أكثر من مائة عام. لذلك فقد دخل «الترامادول» سريعاً في ثقافة الصنايعيّة، أو من يُعرفون في الدارجة المصرية باسم «الأرزقية»، والذين يعيشون كل يومٍ بيومه، بسبب ما يتيحه «الترامادول» من نشاطٍ وتخديرٍ للألم، حالة مثالية تساعدهم على العمل لأوقات طويلة مجبرين على تأديتها لتوفير قوت عيشهم، وبالطبع، «تعلية الدماغ» التي يؤمنها لهم. في وقت سريع جداً أصبح «الترامادول» ظاهرة شائعة في الثقافة الشعبية حتى لمن لا يتعاطاه. ففي فيلم «الألماني» مثلاً الذي قدَّم محمد رمضان كبطل «سرسجي» للمرة الأولى في عام 2012، نجد في غير مشهد أن الأبطال يتحركون بحثاً عن «شريط فراولة».

غوستاف كوربيه، «رجل يدخن الغليون»

ولقصة الفراولة ونسبها إلى «الترامادول» خيط رفيع. فلطالما رمزت الفراولة، تلك الفاكهة غالية الثمن، إلى السعادة والرغد كما يراها المصريون، وهكذا كانت حبوب «الترامادول»؛ حمراء اللون، فهي «فراولة» البُسطاء ومن هم «على باب الله» الذين يقدرون على دفع ثمنها البسيط المتمثل في جنيه واحد ثمناً للحبة الواحدة (هكذا كان السعر أيامها). إن ما سهّل من شعبية «الترامادول» في ذلك الوقت هو الشعور بالتحرر من عبء الحرمان الديني والمطاردة القانونية التي تتعلق بالمخدرات. ففي مصر تصنّف المواد الطبية المخدرة في جداول، أخطرها هو ما يندرج في الجدول الأول، أما ما دونه فيُعد في عرف الشارع «مُختلف عليه». وقد كان «الترامادول» مادة علاجية مُدرجة في الجدول الثالث للمخدرات، أي إن تعاطيه يُعد في القانون مجرّد جُنحة، قد يُكتفى عند ضبط صاحبها بتغريمه مائة جنيه، وفي عام 2013، أُعيد ترتيب «الترامادول» في الجدول الأوّل، وأصبح في عرف القانون جناية، يعاقب صاحبها بالسجن لتعاطيه، وقد تصل العقوبة إلى الإعدام في حال تاجر فيه، أي أصبح مادة مخدرة بشكل قطعي، لا تُصرف إلا بإذنٍ من الطبيب.

سبانخ «باباي»
أتذكر ليلة من ليالي عام 2014 كنت فيها ضحية لساديّة آلام الأسنان. ليلةٌ كان يليها نهار يتخلله امتحان اللغة العربية، وهو النهار الأصعب والأطول في السنة الأهم في الدراسة الإعدادية، تلك التي نعرفها باسم سنة «الشهادة». اشتد الألم كثيراً حتى أنني بكيت وصرخت حتى سمعني والداي، فأتيا مسرعين ليفهما ما الذي يحدث. عرف أبي أنني أتألم من ضرسي، ولأنني كنت محموماً، لم أعِ كثيراً ما جاء من همهمات بينه وبين أمي من شدة الألم. مرت دقائق كان أبي قد ذهب فيها، وجاء بُربع حبة من البرشام الأحمر وأعطاني إياها قائلاً: «خد دي وهتبقى كويس بس متتعودش عليها، لحد ما نخلع ضرسك بكرة بعد الامتحان». وبمجرد أن أخذت ذلك الربع السحري ذهب الألم كأنه لم يكن، وجاء على بالي القبطان «باباي»، وسبانخه الشهيرة، واستيقظت من نومي لأكمل دراستي التي لم أكملها، حتى جاء وقت الامتحان وامتُحِنت وسار كل شيء وفق الخطة.
في اليوم التالي سألته عن تلك البرشامة، فأجابني أنها «ترامادول». صُعقت للوهلة الأولى حالما شعرت أن أبي مدمن على المخدرات، لكنه لم يكن كذلك بل كان من الذين يتعاطون «الترامادول» بأمر الطبيب لمشكلات في غضروفه. في بعض الأحيان كان أبي يشتريه من خارج الصيدلة بسبب كثرة شكوك الصيادلة وحرصهم على ألا تكون الوصفة تخصّ صاحبها الذي يريد صرفها. ولقد كان حصول أبي على «الترامادول» سهلاً نظراً إلى عمله في منطقة حرفيين. وهم منذ أن اكتشفوا «الترامادول» زادت إنتاجيّتهم إلى الضعف، في وقت كان يعاني فيه الجميع من أوضاع اقتصادية رديئة، ويحاولون البحث عن وسيلة للنجاة، فاضطروا للعمل في أكثر من حرفة.

يا «مِترملين» العالم اتحدوا
في فيلم «قانون طهران» التي تتشابه أحوالها كثيراً مع أحوال أي بلد عربي، تلتقط عدسة المخرج سعيد روستاي مشهداً في نهاية الفيلم لضابط مكافحة المخدرات يدعى «صمد» الذي قرر أن يستقيل بعد القبض على أكبر تاجر مخدرات في شوارع طهران، وذلك لسبب بسيط جداً. يقوله «صمد» لصديقه: «أنت غبي إن كنت تظن أن الإيقاع بـ«ناصر خاكزاد» هو نهاية المخدرات في شوارع طهران. أتتذكر حين بدأنا العمل بالشرطة؟ كم كانت نسبة المدمنين؟ وكم هي الآن على الرغم من أننا عبر كل تلك السنوات أوقعنا بالمجرمين واحداً تلو الآخر؟ إن عملنا بلا جدوى، ما لم نُطارد المسؤول الحقيقي». يمتلك سعيد روستاي في أفلامه نظرة خاصة عن العدالة والقانون تقوم على توريط المشاهد «أخلاقياً»، إذ يجد المُشاهد نفسه في النهاية يتعاطف مع التاجر («ناصر خاكزاد») وكل المدمنين بدلاً من التعاطف مع الشرطة. ففي التفتيش عن جذور الشخصيات ودوافعها، نجد أن دافع «ناصر خاكزاد» للدخول في تلك التجارة مردّه حكومة ونظام فاسدَين قتلا أخيه بمرضه وفقر عائلته.
في مصر، تختزل الأسطورة التي تعلل قيام ثورة يناير 2011 كل الكلام عن جذور الغضب في السياسة والاقتصاد والمجتمع قائلة إن: «حبيب العادلي -وزير الداخلية في عهد الرئيس حسني مبارك- شد الحملة جامد على الحشيش، ولما منعوا الحشيش الشعب فاق فقام عمل ثورة!» ورغم ما تبدو عليه تلك الأسطورة من هزل واستهزاء بالتحليلات السياسية، وحقيقة السياقات، إلا أنها تحمل طرفاً ما في القول صادقاً. فلطالما أحبّت الحكومات أن تُغرق شعبها في النوم والتخدير لكي تستطيع أن تنفرد بالقرار من دون «دوشة». في السنوات الأخيرة، وفي مصر أيضاً، ورغم حملات مكافحة المخدرات في التلفزيون الحكومي ومحمد صلاح الذي استُخدم في حملة إعلانية ضخمة ضد المخدرات، أصبح 10% من المصريين مدمنين على المخدرات وعلى «الترامادول» في صدارة المواد المخدرة، ووصل سعر شريط «الترامادول» في النهاية إلى 1500 جنيه، وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني مصر منها، ما زال المتهافتون على شرائه هم من الفقراء، والشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة. فبينما يبدأ الأمر بتعاطي الفرد للـ«ترامادول» محاولاً مراوغة الفقر بالنشاط والعمل، ينتهي به الحال عاملاً من أجل توفير حق شريط «الترامادول» الذي لا يستطيع الاستغناء عنه. إن النتيجة صفر بالأحرى بالسالب.
في الطوابير يقف «المِترملين» كالزومبيهات، يتدافعون للحصول على ما يستطيع الجيب أن يتحمل كُلفته. بعض تلك الطوابير تكون تحت أعين الشرطة التي ينتفع رجالاتها من تلك التجارة بالصمت وغض النظر عن تجّارها، يرتشون ويقسّمون حصيلة ما جنوه فيما بينهم. وفي مصر أيضاً، يتخيل الحاكم -بأمر الله طبعاً- الفقراء من شعبه أنهم مجموعة من المُتعطشين على «ترامادول»، يسهل «شراؤهم» عبر تزويدهم به، أو بألف جنيه التي تكفيهم لشراء ثلاثة أرباع شريط آخر تقريباً. بكل ثقةٍ يُفصح عن خياله الساذج هذا في أحد خطاباته، واثقٌ من نفسه وكأن خطابه يوازي نداء ماركس الشهير لعمال العالم.
في مخيال الحاكم الذي يتحول إلى «هرتلة» تغيب بعض الأسئلة. أولها وأهمها من الذي يسمح برواج «الترامادول» في جموع الفقراء في الوقت الذي تُعد مكافحته أولوية على رأس قائمة أولويات وزارة الداخلية المصرية وجهازها الشرطي. السؤال الثاني: من الذي أفقر هؤلاء «المِترملين» من الأساس وجعل «ظروفهم صعبة» على حد اعتراف الحاكم بأمر الله بلسانه، ومن حوّلهم إلى مجموعةٍ تتعطش لهدم وطنها وبيعه مقابل حبّة «ترامادول»؟
وبينما غمر السوشيال سيلاً من السخرية على كلمات الحاكم وسرديّته حيال «الترامادول» الذي يستطيع به أن يهدّ البلاد ويُعيدها إلى أزمنة الفوضى، غاب السؤال أيضاً عمَّ جعل «المِترملين»... «مِترملين»!