مثل المدفوع بشهوة المستهلك العاجز، كنت مشدوداً إلى الإعلان الذي ظهر أمامي فجأة. منذ مدةٍ وجيزة، شاهدت إعلاناً مصنوعاً بكفاءةٍ عالية على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي؛ بطلته فتاة ممشوقة القامة، أنيقة، ترتدي بدلة داكنة اللون، وتتحرك برشاقة في مدينة تلمع أرضيتها. بوسعك أن تتلمس حالة الاسترخاء التي تنعم بها الفتاة وهي تتنقل من موقع إلى آخر أكثر فخامة وبهرجة. بصوتها الناعم وبنبرةٍ خافتة، تخبرنا الفتاة عن الأماكن الجميلة في البلد الذي تسوّق له في الإعلان، وتروّج لفكرة شراء عقاراتٍ فيه، كما أنها توصينا باستعمال تطبيق «بيوت – bayut»، وهو اسم الشركة المُعلِنة. فالتطبيق سيساعدك على إيجاد الأماكن الجميلة المخبأة في البلد. تظهر لنا مادة الإعلان بلداً خفيف الظل، ومباني رشيقة هادئة، والسماء صافية خالية من الدخان الملوث، وكأننا في الفردوس بنسخته المدينية، لكن في الثواني الأخيرة من الإعلان اكتشفت أن هذه الصور والأماكن التي نراها تعود إلى مصر.

يحيلنا الإعلان الدعائي لشركة «بيوت – bayut» إلى واقع متخيل، إذ إنّ القائمين على المادة المصورة والمنتجين المنفذين أو حتى الشركة الأم التي تموله، يصورون، بشكلٍ واعٍ وعن قصد، أجزاء من مساحة يتشاركها أكثر من مئة مليون مواطن ومواطنة، ومن المحتمل ألا يكونوا قد تشاركوا أو احتكوا بهذا الحيّز المثالي المتخيّل في الإعلان. إننا نتحدث عن مصر التي تناقض بجوهرها ما يظهر في الإعلان، ثم إنّ الصورة التي تُروّج لها، حيث تظهر مصر وكأنها الفردوس المفقود وبفضل تطبيق «بيوت – bayut» سيكون بمقدورك إيجاد فسحة فيه، تضفي نوعاً من الإقصاء الاجتماعي، هو الفعل المسمى اصطلاحاً «بالآخرية – otherization» أي عملية التحييد لمجموعة من الأفراد تجمعهم بعض الصفات المشتركة، ما يعني مخاطبة فئة واحدة عبر هذا الإعلان وإقصاء الآخرين. إضافة إلى ذلك، إنه رسالة باطنية تؤكد وجود تفاوت طبقي هائل لأبناء المجتمع الواحد الذين يعيشون في نفس المنطقة الديموغرافية. غير أن هذا الإعلان يسمح لنا أيضاً باستنباط لمحة عن الفروقات الطبقية الواضحة في نسيج واحد يدّعي أنه واحدٌ وأنّ مجتمعه وحدويّ. فمهمة الدعاية الأولى كما يخبرنا نعوم تشومسكي في نظريته للمستويات الخمسة للإعلام أنه «زيادة أسعار المنتجات في سوق فيه منافسة عالية يسوق المستهلكين إلى شراء منتجات أخرى بسعر أبخس، وعليه يجب حتماً على الشركات الدعائية، أن يضعوا في حسبانهم الفروقات الاقتصادية، السياسية والاجتماعية للحملات، حتى يحافظوا على دخلهم ويعملوا على إرضاء الشركة الأم». بما أنه من الحتمي للسوق أن يتوجه إلى جميع المستهلكين باختلاف خلفياتهم وطبقاتهم الاجتماعية والمادية، فعلى الشركات الدعائية أن تخاطب جميع الفئات المستهلكة. وبما أن هذا الإعلان الدعائي موجود على فايسبوك، الفضاء الذي يكاد يكون عاماً وأشبه بالمشاع، فالإعلان يعني أنه موجه إلى طبقة معينة من الجمهور الذي سيستجيب لرسائل الإعلان الباطنية والتي تفيد أن أماكن فردوسية تتفتق من هذا البلد المأزوم والمنهار، كما أنه يحوي من المستهلكين ما يكفي ليستجيبوا للصوت العذب الذي يناديهم بلغتهم.
رجوعاً إلى لغة إعلاننا البرجوازي القصير، فهو يظهر لنا نوعية الجمهور المستهدف من المقطع الذي لا تطول مدته عن الـ45 ثانية، ومن المؤكد أنه خارج الشريحة التي يرجّح أن يصل أكثر من 36% منها تحت خط الفقر في عام 2025 القادم. بإمكاننا القول من دون الاستناد إلى دراسةٍ علمية، إن الإعلان مصمم حتى يخاطب الطبقة الأوليغارشية الشحيحة التي تسيطر على المقدرات الاقتصادية للبلاد. هذه هي الطبقة التي يتوجه إليها هذا الإعلان، والتي تفهم لغته التكويدية المنطوقة بسيميائية جمالية معلنة، ورسائله الباطنية التي تحرك رغباتها، وتثيرها الموسيقى الشوبانية التي تلعب في الخلفية، من دون أن ننسى الصوت الخفيض لبطلة الإعلان أي الفتاة الممشوقة الأنيقة. عبر هذه العناصر يمكننا أيضاً فهم مدى اتساع الهوة الثقافية بين الطبقات المستهدفة والأخرى المستبعدة إذا ما حللنا اللغة، والصوت، والمواقع، والموسيقى المستخدمة.
للإعلانات لغة فإذاً وكل لغة هي تمثيل لطبقة من الطبقات الاجتماعية. نلاحظ مثلاً أن تمثيل الطبقات المعدمة في الإعلانات المصرية يهدف، أولاً وأخيراً، إلى استقطاب الطبقات المتوسطة والعليا لتستعطفها وتستنجد فيها، لكي تحصد منها التبرعات وتحثّها على القيام بأعمال الإنسانية. فنسمع في هذه الإعلانات صوتاً رخيماً يأتي من العمق، وكأنه ينادي ذاك الحس الرومانطقي الدفين، والذي إن تجاهلته شعرت بالذنب تجاه تقصيرك مع الطبقات الفقيرة المحتاجة إليك – إليك أنت فقط – وتسمع في الخلفية موسيقى شاعرية تدغدغ أحاسيسك. تكون الصورة باذخة بألوان الكآبة والتعاسة، تستحضر وجوه مصريين ومصريات «عاديين وعاديات» الذين نراهم دائماً في شوارع وزقاق مصر «العادية»، نلتقي بهم في مواقع وأماكن مقفرة، سقيمة، بلا مأوى ولا مال ولا دواء. لكن في نفس الوقت وبشكل غرائبي، نرى نفس الأشخاص في إعلانٍ آخر، يرقصون على نغمات مليئة بالأمل والتفاؤل، وعلى وجوههم ترتسم ابتسامة حب، لا يطلبون منا الشفقة بقدر ما يحاولون إقناعنا بأنهم على ما يرام وبصحة وفيرة رغم الضيق والبلاء، وكأنهم يستمتعون بقدرهم، بهذا الفقر المدقع، وكل هذه الرسائل تحت مظلة ما يسمى بمغالطة «الاستجداء العاطفي».
يذكرنا هذا التضاد بالفكر الأوروبي في عصر الظلام، ذلك الفكر الذي كان قائماً على فكرة أن المجتمع كجسد الإنسان، وكل جزء من هذا الجسد يمثل طبقة اجتماعية معينة. كلنا يعلم أن الطبقة الأرستقراطية هي الطبقة التي تحوز على رأس المال، ونزولاً إلى أخمص القدمين نصل إلى الطبقة الفقيرة، التي قدر الإله لها أن تبقى كذلك في الأسفل أبداً، لأن المجتمع وفقاً لمنطقها، لا يكون كلاً منسجماً متجانساً إلا عبر هذه الديناميكية الطبقية الثيوقراطية، التي بموجبها تمثل الشكل للمجتمع المثالي، ولأن «الله أعلم ببواطن الأمور».
بوسعنا أن نتلمّس هذا الشرخ الطبقي الموجود في مجتمعاتنا بمجرد النظر للخطابات المختلفة لشركات الدعاية والإعلان، ولنا أن نستخدمها كأداة تحليلية لفهم النسيج الطبقي. ففي المجتمع تتخالج كل الفئات على كل المستويات الاجتماعية والمادية والسياسية والإثنية، والتي يمكن أن تتعرف على عيوبها عبر متابعة الإنتاج المتتالي للإعلانات الدعائية بدلاً من أن تتصنع وجود واقع فقاعي مُحلى بطعم الألوان الزائفة.