إعداد جهاد الملاح
كانت «الديبلوماسية» و«التمسك بالحق» كفيلين بجعل الدول الكبرى تقدِّم عرضاً لطهران، في 6 حزيران الماضي، يتمثل بمجموعة من الحوافز التكنولوجية والاقتصادية والسياسية توافق عليها الدول الست (الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا)، في مقابل وقف التخصيب. الردّّ على الحوافز دخل في سباق المواعيد. لكن إيران التزمت بموعد 22 آب الذي حددته لنفسها، فسلمت ردها معلنة أنها مستعدة، ابتداء من 23 آب، لبدء محادثات «جادة»، من دون أن تمتثل لطلب وقف التخصيب
الدول الست رأت أن الرد، الذي جاء في 21 صفحة، «معقد وغامض في كثير من أجزائه». لكن هذا الرد يحتوي على مواد كثيرة، من الممكن وصفها بأنها تشكل عرضاً لتلك الدول، قد يفيد أياً منها، إذا احسنت قراءتها واستغلالها. فهو أبقى الباب مفتوحاً على الحوار، بل حث على الحوار الذي يضمن حقوق جميع الأطراف، وإن بشروط. وبالتالي، ابدى الرد مرونة إيرانية في هذا الصدد. إلا أنه كان في المجمل أشبه بعرض مضاد يتطلب «رداً على الرد» من الدول الست، وخاصة مع كثرة الفقرات التقويمية والاستفسارية.
ويشار إلى أن الردّ تجنب ذكر الولايات المتحدة، إلا للومها، فيما أشار كثيراً إلى عبارة «الدول الأوروبية وغيرها».
ويتألف الردّ الإيراني من 11 قسماً، ويمثل القسم الأول مقدمة سياسية حقوقية. ويلاحظ أنه ليس هناك عناوين تحدد مضمون كل قسم. وفي ما يلي أقسام الرد الـ11 بعناوين تتناسب مع مضمونها، مع إلقاء الضوء على هذا المضمون:
1 ـــ نظرة في النظام العالمي
القسم الأول يظهر أن الرد الإيراني لم يكن مجرد رد عادي على عرض ما، فهو انطلق في بدايته بحيثيات كثيرة، شكلت في مجملها تصوراً للنظام العالمي، والواجبات والحقوق داخل هذا النظام. وقدمت إيران نفسها كدولة طالما آمنت بحلّ النزاعات عبر المفاوضات العادلة وطالما شددت على احترم القانون وحقوق كل الأطراف.
وبالتالي فإن الرد انطلق بمداخلة سياسية تمثل رفضاً لما يجري من هيمنة، ويحاكي قوة إيران المتنامية نحو العالمية التي لها الحق في تقويم النظام العالمي. فهي رأت أن العضوية في المنظمات الدولية «تستدعي حقوقاً وواجبات على الجميع»، وليس بإمكان أي حكومة أن تعطي حقوقاً لنفسها وتحرّمها على غيرها أو تضع مسؤوليات على غيرها وترفعها عن نفسها».
كما أن طهران لم تكتف بإعلان حرصها على حفظ الأمن والسلم العالميين، بل إنها تطرقت، في مقدمة ردها «النووي»، الى مآسي العالم والحاجة الى الأمن والسلم والتعايش وضرورة إزالة الحرمان في التعليم والصحة ومحو الأمية ونشر القيم. وكل هذا، برأي طهران، يمكن تحقيقه عبر استغلال الأموال المخصصة للتسلح، الذي يؤدي الى غياب الأمن والعدالة والازدهار في العالم.
2- لم تتركوا لنا خياراً آخر
في القسم الثاني، تنحي طهران باللائمة على الولايات المتحدة والدول الأوروبية، التي «خرقت التزاماتها حسب معاهدة (حظرالانتشار النووي) والمتوجبات العقدية في التعاون ونقل التكنولوجيا، قبل الثورة وبعدها، فضلاً عن فرض العقوبات على إيران»، الأمر الذي لم يترك لطهران «أي خيار غير التحرك لإنتاج الطاقة النووية محلياًًً». إلا أن الردّّ، وبعدما حمّل الدول الكبرى المسؤولية عن انتهاج طهران للإنتاج المحلي للطاقة، يؤكد أن إيران، وبسبب تمسكها بحقها المنصوص عليه في المادة الرابعة من معاهدة «حظر الانتشار»، أصبحت في المحصلة «عضواً في الدول المنتجة للطاقة النووية». وخلصت طهران، في هذا القسم الى اختيار «إيجابيتين» في عرض الدول الكبرى، رأت أنه «يمكن أن تكونا مفيدتين لمقاربة بناءة»، وهما تجديد التأكيد على حقوق إيران بتطوير برنامج نووي لإنتاج الطاقة السلمية، بحسب معاهدة «حظر الانتشار»، والاستعداد للمفاوضات من أجل التوصل الى «اتفاق شامل» مع إيران. ويبدو أن هاتين «الإيجابيتين» تشكلان بيت القصيد لإيران، فالردّ شدّد على الأولى، فيما خلص في مجمله الى الثانية.
3- غموض يحتاج إلى مفاوضات
بدأ القسم الثالث بوصف عرض الدول الست بأنه «يحتوي على أسس وقدرات مفيدة من أجل تعاون شامل وطويل المدى بين الطرفين»، وأطلقت إيران فيه ما قد يصلح ليكون تكتيكاً مفيداً في كسب الوقت، وذلك عبر إعلانها عن وجود «أسئلة وجوانب غامضة في ما يتعلق بضمان حقوقها»، لتعلن بالتالي أنها مستعدة لإزالة قلق الطرفين عبر المفاوضات. فالتكتيك الإيراني في هذه المقاربة يتمثل بطرح جوانب غامضة لا بد من استيضاحها للطرفين، وهذا الاستيضاح يستدعي مفاوضات هي تسعى اليها، وقد تكون طوال المدة النووية التي تحتاج إليها. وللترغيب، تلحق إيران بما تقدم استعدادها لـ«التعاون الطويل الأمد» في المجالات الأمنية والاقتصادية والسياسية، من أجل التوصل الى «الأمن الدائم في المنطقة» و«أمن الطاقة طويل المدى». وتعيد طهران اعتقادها بأن كل القضايا يمكن حلها عن طريق التفاوض، ما يضيف مرونة «مدروسة» إلى الرد الإيراني، ليشمل هذا القسم من الرد استثناءً منهجياً عن الأقسام الأخرى، لأنه يحمل تكتيكاً من غير المستبعد أن يكون له تأثيرمعنوي.

4- آلية واضحة للمفاوضات
في القسم الرابع (الصفحة السادسة)، تبدأ إيران بالتطرق الفعلي لعرض الدول الست، وتنطلق من اعتبارها أن المبدأ الأساسي المقدم في العرض هو تجديد آلية المفاوضات للتوصل الى اتفاقات ونتائج شاملة، فتقدّم تصورها لما يجب أن يحتويه هذا المبدأ من حلّ سلمي للنزاع في ظل الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومعاهدة «حظر الانتشار»، إضافة الى التفاهم وبناء الثقة، فضلاً عن تعزيز الأمن والسلم في المنطقة وتعزيز التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي في إيران.
وفي الصفحة السادسة نفسها، تكتب إيران ما ينتظره الغرب، فتقول إن «الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقبل الفكرة الأساسية للعرض».
إلا أنها، في الوقت نفسه، تركز على نقاط ثلاث، يمكن اعتبارها الشروط التي أطلقتها. في النقطة الأولى، توضح إيران أن المفاوضات يجب أن تركز في الأساس على الثقة، ثم تشرح ما يعنيه هذا الأمر من أصول التفاوض والالتزام والتوازن، وتجنب أي فعل «مدمّر ومعيق» للتفاوض، لتخلص الى أن هذا الأمر يستدعي الحوار والتفاهم، و«العرض لم يتطرق الى هذا». وتشير في النقطة الثانية، الى أن التجربة تعطيها السبب بأن تبقى «مشككة» في نية بعض الدول الست التوصل الى علاقات شاملة ومبادلات تعاونية، فتدعو هذا البعض الى مراجعة سلوكه السابق وعدم السعي الى حجج من أجل أفعال عدائية قبل المفاوضات. ثم تحذر من مغبة نقل الملف الى مجلس الأمن، الذي من شأنه أن «يعيق جدياً نجاح آلية التفاوض». وهنا، تبدو إيران بعيدة كل البعد عن دور الضعيف أو المدافع عن نفسه، وخاصة مع انطلاقها بتقويم خطوات الدول الست والحكم على أفعالها، بل أيضاً عرض البديل عن هذه الأفعال. وفي النقطة الثالثة، يشهد الرد تكراراً إيرانياً لماهية المفاوضات، لكن بتفصيل أكثر، ثم انتقاداً لعرض الدول الست لأنه لم يشمل ضمانات غير قابلة للإلغاء أو الرجوع من قبل هذه الدول، معلنة أنها حضّرت اقتراحاتها الخاصة للتفاوض حول هذه الضمانات. وطبعاً هذا يصب في رغبتها إطلاق مفاوصات جديدة.
إلا أن الرد يضيف أن العرض لم يتضمن اعتباراً مناسباً لـ«المفاوضات بحد ذاتها»، ما يوحي بأن آلية المفاوضات تشكل هاجساً لإيران بسبب عدم التزام الغرب آلية واضحة. فتعرض بالتالي، في ردها، أن يكون الهدف الأول هو التوصل الى اتفاق يوضح آلية التفاوض ويضع خطوطاً عريضة لها.
5- إزالة البعد السياسي
في القسم الخامس، تشير إيران الى غموض في العلاقة بين آلية التفاعل والتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وبين آلية المفاوضات مع الدول الكبرى، معتبرة أن الآلية الثانية تهدف الى دعم وتسهيل الآلية الأولى، التي تعتبرالطريق الأساسي لحل المسألة النووية. وبالتالي يمكن القول إن إيران تسعى الى إزالة البعد السياسي عن المفاوضات، لتبقيها ضمن إطار الوكالة الدولية ومعاهدة «حظر الانتشار النووي» التي تضمن لها حق إنتاج الطاقة السلمية، وذلك من دون أي ضغوط سياسية قد تعيق هذا الحق.
6- مزيد من الغموض
في القسم السادس، تشرح طهران علاقتها بالوكالة الدولية للطاقة الذرية وبمعاهدة «حظر الانتشار»، التي ترتبت عليها واجبات وحقوق، وتعلن أنها «مستعدة للتفاوض» في شأنها وقد حضّرت اقتراحاتها في هذا الصدد. ويشير التحضير الإيراني إلى أمور عدة للتفاوض، والذي يتكرر ذكره في الردّ، أن طهران تستشرف المرحلة المقبلة وأنها تملك من الأدوات الكافية لإطلاق المحادثات مجدداً، وهذا ما حصل بالفعل مع إشاعة أنباء عن اقتراح إيراني لتعليق التخصيب لمدة شهرين، الأمرالذي أحدث مرونة أوروبية وصلت الى حد الامتداح. وتذكر طهران في هذا القسم، أن العرض غامض من ناحية ماهية الاعتراف بالحق الإيراني. ويستكمل القسم السادس والأقسام الباقية بأسلوب وشكل كتابة مختلفين، ما يشير الى أنها ترجمت من قبل شخص آخر.
7- أول إشارة يريدها الغرب
القسم السابع، الذي يبدأ في الصفحة 11، يحتوي أول إشارة الى إمكان تعليق التخصيب، وذلك عبر الحديث عن «تعليق الملف الإيراني في مجلس الأمن خلال المفاوضات وتعليق نشاطات التخصيب عبر المفاوضات». ويعلن الردّ أن طهران مستعدة لهذا الأمر، لكن بسرد شروط عديدة تنتقد إرسال الملف النووي الى مجلس الأمن، وتطالب بعدم تدخل هذا المجلس وترك الطريق للتفاوض. ويقول نص الردّ إنه «ليس من الواضح كيف أن تعليق إيران أنشطتها النووية سيعيد الشروط المناسبة للمفاوضات، لكن من الواضح أن إصرار الطرف الآخر على الأفعال العدائية، من شأنه أن يعيق الشروط المناسبة للمفاوضات». كما تقترح طهران آلية زمنية لحل المسألة، على أن تبدأ برفع يد مجلس الأمن عن الملف النووي وإعادته الى الوكالة الدولية للطاقة.
8- تعامل مشروط مع «الوكالة»
في القسم الثامن، ينتقل الرد الإيراني للحديث عن البروتوكول الإضافي في معاهدة «حظر الانتشار»، معلناً استعداد طهران لتسهيل عمليات التفتيش التي تجريها وكالة الطاقة الذرية لإزالة أي غموض في برنامجها النووي، وذلك وفقاً لشروط تتمثل في، إضافةً الى رفع يد مجلس الأمن عن الملف، تأسيس إطار عمل جديد مع الوكالة يستند الى معايير تقنية وقانونية بعيداً عن الدوافع والضغوط السياسية، فضلاً عن تجميد مناقشة الملف في مجلس حكام الوكالة حتى تقديم مديرها العام محمد البرادعي تقريره.
9- انزعوا أسلحة النظام الصهيوني
في القسم التاسع، تعيد إيران التطرق الى مسألة «بناء الثقة المتبادلة»، مشيرة الى أن الأسرة الدولية، في معظمها، تثق بالمخططات النووية الإيرانية وبنيات طهران، وليس لديها قلق في هذا الشأن. وفيما تستند في توضيح برنامجها النووي الى أعمال وكالة الطاقة داخل أراضيها، تؤكد إيران، في ردّها، أنها لا تملك أي برنامج تسلح نووي. كما تؤكد أنها على استعداد لإبراز «نيتها الصادقة» لضمان عضويتها في الوكالة الدولية للطاقة الذرية وفي معاهدة «حظر الانتشار»، وذلك إذا لاقت «تصرفاً مسؤولاً ومنطقياً من الطرف الآخر».ولا تنسى إيران في ردها التطرق الى ضرورة التزام الطرف الآخر التوصل الى شرق أوسط منزوع السلاح النووي، وتحديداً «نزع أسلحة الدمار الشامل الموجودة لدى النظام الصهيوني، وخاصة الأسلحة النووية».
10 - ارفعوا القيود والعقوبات
القسم العاشر يتناول ما جاء في العرض حول التعاون السياسي والاقتصادي، مشيراً مجدداً الى غموض في هذا الشأن. فهذا التعاون يستدعي «تغييراً في السياسات»، أي رفع القيود والحصار عن إيران في كل المجالات. كما يتطرق هذا القسم الى العلاقة الإيرانية الناشطة بالصين وروسيا، مقترحاً أن ترفع الدول الغربية، التي تريد أن تشارك في المفاوضات، الضغوط عن إيران، وتمضي في تطبيع علاقتها مع طهران، ما يضمن الحفاظ على المصالح المشتركة الطويلة المدى على صعيد التعاون الاقتصادي والسياسي.
11- شراكة مع أوروبا... وتحذير
القسم الحادي عشر والأخير يعود الى ما ذكر في فقرات سابقة، عن استعداد طهران للاتفاق على تعاون شامل وطويل المدى من أجل التوصل الى نمو وأمن دائمين في المنطقة. وتعلن إيران، من جهتها، الاستعدد للمساهمة في التعاون من أجل تحقيق أمن دائم للطاقة، وللشراكة مع الدول الأوروبية في هذا الصدد. وتستخلص طهران ردها بالتأكيد على أن الجمهورية الإسلامية، بـ«نيتها وإرادتها الصادقتين» في تحقيق تقدم ملحوظ، حاولت أن تضع أساساً لحلّ القضية النووية من خلال سياق بنّاء من المفاوضات.
إلا أن الردّ لم يمر مرور الكرام، واختتم في جملته الأخيرة بتحذير أشبه ما يكون بتهديد، فقال إنه «إذا ردت بعض الأطراف ذات الميول المغامرة على إرادة إيران الصادقة من خلال مجلس الأمن»، ففي هذه الحالة، كل المواقف التي عبّرت عنها طهران في هذا الرد «تكون ملغاة وستختار الجمهورية الإسلامية طريقاً آخر».