عندما حصل لبنان على حصّته من حقوق السحب الخاصة في أيلول 2021، سارع إلى بيعها في السوق الدولية وتحويلها إلى دولارات. بموجب ذلك، تحوّل إلى حساب الخزينة في مصرف لبنان مبلغ قيمته 1.139 مليار دولار. وفي تلك الفترة اختلفت قوى السلطة على إنفاق ذلك المبلغ، لأنه أموال تُنفق بقرار السلطة المالية وهي منفصلة عما يُسمّى الاحتياطات الإلزامية بالعملة الأجنبية في مصرف لبنان والتي يُطلق عليها «أموال المودعين». بعض المقترحات ظهرت على شكل استثمارات في البنية التحتية والخدمات العامة مثل معامل الكهرباء، وبعضها الآخر كان على شكل إنفاق اجتماعي مباشر مثل تمويل تعويضات العمال في الضمان أو تسديد مخصّصات شهرية سُتدفع ضمن برامج مكافحة الفقر... ورغم كل الانتقادات التي طاولت هذه المقترحات، إلا أن السلطة لم تقم بأيّ منها، بل فضّلت تبديد الدولارات بشكل أكثر سوءاً، من أبرزها اشتراكات لبنان في المنظمات الدولية. والآن لم يبق من حقوق السحب الخاصة سوى 76 مليون دولار، أي إنها عملياً «راحت بلا رجعة» بلا أثر يُذكر.خلال أقلّ من سنتين أنفقت قوى السلطة ملياراً و63 مليون دولار من حقوق السحب الخاصة. رغم أن الحكومة قرّرت أن إنفاق هذه الأموال لا يمكن أن يجري خارج قرارات مجلس الوزراء، إلا أن قسماً منها أُنفق بقرارات إفرادية من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بالتنسيق مع وزير المال يوسف الخليل وحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة. استُعملت هذه الأموال لتمويل نفقات استهلاكية بلا تخطيط أو ترتيب للأولويات في بلد يعاني من نقص حادّ في العملة الأجنبية، ما انعكس انهياراً في قيمة عملته. ورغم كل النقاش الذي ترافق يوم وصول هذه الأموال حول ضرورة استعمالها في سياق مجدٍ، إلا أنها بمجرد وصولها فتحت شهية السلطة على مدّ اليد عليها كلما اصطدمت بحائط تمويلي. إنفاقها في غالب الأحيان ترافق مع إنفاق قام به مصرف لبنان من موجوداته بالعملة الأجنبية. عملياً، تناوبت قوى السلطة وسلامة على إنفاق كل السيولة بالعملة الأجنبية التي يملكها لبنان، سواء من حقوق السحب الخاصة أو مما يُسمّى احتياطات إلزامية.
هذه سياسة رياض سلامة لـ«الترقيع» و«شراء الوقت» و«تذويب الخسائر»


اللافت، أن الإنفاق لم يستقطب اعتراضات من أيّ مسؤول أو وزير في الدولة، أو أقلّه في إطار محاولة لوضع خطّة لإنفاق الأموال على ما يفيد الوضع الاقتصادي العام ويخفّف الأعباء الاقتصادية والاجتماعية عن السكان. لم يُستعمل أي قرش من هذا المبلغ لشراء باصات نقل عام، على سبيل المثال. ولم يُستعمل لتأمين انطلاقة تغطية صحية بحدّ أدنى. لم يُستعمل أي جزء منه لتأمين استدامة التعليم العام. بهذه المبالغ سُدّدت اشتراكات عن لبنان للمنظمات الدولية، وأُنفقت أموال لا يُعرف شيء عن الحاجة إليها، والأمر الوحيد المعروف أنها استُعملت لدعم أسعار الأدوية التي لا تتوافر في السوق وأسعارها ظلّت مرتفعة جداً بينما صُبّت الأموال في جيوب المستوردين التجّار. وحتى حين أطلق حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري حملته القائمة على وقف تمويل الدولة من موجودات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية، إلا أنه بحسب ما علمت «الأخبار»، وافق على أن يُدفع من موجوداته مبلغ 49 مليون دولار للبنك الدولي نيابة عن الحكومة و7.5 ملايين دولار لمشغّلي الكهرباء، بضمانة مبلغ مماثل من حقوق السحب الخاصة، على أن يقوم مصرف لبنان بشراء الدولارات من السوق لتمويل هذه العملية تدريجياً. لكنّ المصرف اصطدم بمسألة أساسية: وزير الصحة فراس الأبيض سبق أن طلب 70مليون دولار لدعم الأدوية لشهرين، وتبيّن أن هناك شحنات قمح مستوردة سابقاً بتمويل من حقوق السحب الخاصة بقيمة 8 ملايين دولار... أي إن هناك أموالاً محجوزة للدفع أكثر من رصيد الحساب!
ما سبق هو نموذج عن استنسابية الحكومة وقوى السلطة في السياسات المالية والنقدية والاقتصادية. لا تخطيط. لا رؤية. لا أهداف. لا جدوى. المزرعة استمرّت بكونها مزرعة مع زيادة في الفوضى الناتجة من الانهيار والأزمة النقدية والمصرفية. والسلطة تركّز عملها اليوم على تبديد ما تبقّى من السيولة بالدولار لتغطية حاجات خارج أي أولويات وأي نقاشات وأي استراتيجية. هذه أصلاً كانت السياسة التي اتّبعها رياض سلامة من خلال «الترقيع» و«شراء الوقت» و«تذويب الخسائر»، وقوى السلطة بكل أطيافها لم تحد قيد أنملة عنها. كل ذلك يأتي فوق إنفاق من سيولة مصرف لبنان بالعملة الأجنبية بقيمة 14 مليار دولار على الدعم. من يأبه لمليار إضافي؟