معظم المشاركين في مؤتمر «مشروع الليطاني-قناة 800» الذي عقده أمس المركز الاستشاري للدراسات، غير متفائلين بالجدوى الاقتصادية للمشروع. فقد جرى التخطيط لهذا المشروع قبل نصف قرن، وأُنفق على المرحلة الأولى منه نحو 395 مليون دولار من دون أن تتضح الجدوى التي يفترض أن تتواءم مع كل التغيّرات البنيوية ديموغرافياً واقتصادياً واجتماعياً التي غيّرت وجه لبنان بشكل كامل. الأسئلة كثيرة وصادمة، وتمحورت حول ثلاث مسائل أساسية: هل ما تبقّى من مزارعين وأراض زراعية في المنطقة الجنوبية يكفي لتبرير استمرار المشروع؟ كيف يمكن إقناع السكان بالعودة إلى الزراعة بعد إيصال المياه إلى قراهم؟ هل يجب الاستمرار في جرّ المياه من القرعون رغم أن الخبراء المشاركين في المؤتمر يصفون الأمر بأنه «جرّ المجارير»؟

110 ملايين متر مكعب

من مياه القرعون هي قدرة النقل التي سيوفّرها المشروع في مرحلته الثانية لري 13300 هكتار (دونم) من الأراضي الزراعية (70 بلدة)، أي معظم المناطق المصنّفة زراعية، وتقع ما دون ارتفاع 800 متر عن سطح الأرض

التبرير الأساسي لمشروع «الليطاني-قناة 800»، أن الجنوب يعاني من أزمة مياه قاتلة. وهو مشروع يفترض أنه يحمل الصفات الإنمائية الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة الممتدة من قليا في البقاع الغربي، وصولاً إلى يارين في الجنوب، إذ يهدف بشكل رئيسي لتأمين 90 مليون متر مكعّب من المياه للري، و20 مليوناً للشرب. لكن الإشكالات التي تواجهه أكثر من أن تُعد وتُحصى وفق غالبية المشاركين في المؤتمر؛ فلا مزارعين في تلك القرى ليستفيدوا من المياه، لو وصلت، كما أن التوحّش العمراني الذي نشأ بعد التحرير وحرب تموز في جنوب لبنان، غيّر شكل السهول الزراعية التي صُمم المشروع لها في عام 1948. يقول مدير التنظيم المدني علي رمضان: «الفلل والبيوت والشاليهات ومواقف السيارات انتشرت في الأراضي المصنّفة من قبل التنظيم المدني «زراعية»، ورخص البناء تُعطى في هذه الأراضي من دون مراجعة دوائر التنظيم في بيروت، بل على 25% بناء سطحي و50% استثمار، ما جعل الأراضي الزراعية مقطّعة، وفقدت صفة الأرض المتّصلة لريّها». كما أن المشروع المكوّن من مرحلتين يواجه الزمن؛ فالمرحلة الأولى لم تنتهِ بعد رغم انقضاء 75 عاماً على الدراسة المبدئية الأولى التي أعدّها الراحل إبراهيم عبد العال عام 1948، ومضي 50 سنة على الدراسة الأولى للمشروع في عام 1973، و21 سنة على إقراره في مجلس الوزراء عام 2002، و11 عاماً على بدء الأعمال على الأرض في عام 2012.
بالفعل، كان عام 2023 موعداً مفترضاً لإنهاء «مشروع الليطاني-قناة 800» لنقل مياه بحيرة القرعون إلى جنوب لبنان. لكن إلى جانب التحوّلات الجغرافية والاجتماعية، لجهة تقلّص المساحات الزراعية ونزوح وهجرة المزارعين من أراضيهم وتصحّرها، طرأت أيضاً تحوّلات على مياه القرعون، من ماء صالح للري إلى «بركة من السموم»، وفقدت خاصية التنوع البيولوجي مع موت آخر أنواع السمك التي كانت موجودة فيها قبل أعوام قليلة. وبما أن «مشروع الليطاني-قناة 800» يفترض أن ينقل مياه القرعون نحو الأراضي الزراعية الجنوبية، فإنه مع هذا التلوّث بات يهدّد مئات الآلاف من سكان القرى الجنوبية بالتسبب لهم بأمراض، وتسميم تربتهم بالمعادن الثقيلة التي تدخل بدورها إلى المزروعات. هذا ما أكّده المهندس الزراعي حسن شعيتو، إذ عرض نتائج فحوصات قام بها على مزروعات مرويّة بمياه بحيرة القرعون، ليجد أنّ نسبة المعادن الثقيلة التي تؤدّي إلى سرطانات فيها أعلى بمئات المرات من الحد الطبيعي. وأكثر ما يثير القلق، بالنسبة إليه، عدم القدرة على تتبّع المنتجات الزراعية المروية بمياه القرعون، وأين تنتهي في السوق اللبنانية حصراً، فتصديرها أمر شبه مستحيل، كونها ستُصدّر وتعاد إلى لبنان عند أيّ نقطة حدودية بسبب سميّتها العالية. وفي منطقة البقاع الغربي، قام السكان بإقفال القناة التي تنقل المياه بالردميات بسبب الروائح التي تنبعث من المياه، رغم أنّها توفر على مزارعي البطاطا استخدام الكهرباء لتشغيل المرشّات كونها مياهاً مضغوطة، وتهبط من علو 900 متر من دون ضخ.
من جهة أخرى، تبيّن أن منشأة معالجة الطحالب، وهي واحدة من مكوّنات المرحلة الأولى، لن تقوم بعملها في تنقية مياه بحيرة القرعون الملوّثة عند انتقالها نحو خطوط النقل.
في المبدأ، هذه المحطة مسؤولة عن تنقية المياه من كل الشوائب التي يزيد قطرها على 1 سم، والتي تتسبّب بإغلاق مخارج المياه على الأنابيب لدى المزارعين. إلا أنّ التلوث في القرعون أكبر بكثير من مجرّد طحالب، بحسب الخبير البيئي كمال سليم، فالمياه تحتوي على بكتيريا سامة للغاية، ووجودها في التربة قد يجعلها غير صالحة للزراعة، بالإضافة إلى وجود نسب عالية من المعادن الثقيلة في المياه. وخلال النقاش، طمأن المهندس أنطوان سلامة لقدرة غاز الأوزون على تعقيم المياه بشكل تام من البكتيريا، إلا أنّ السلامة البيولوجية للمياه لم تطمئن المشاركين لناحية الوضع الكيميائي للماء، فسألوا عن طريقة إزالة المعادن الثقيلة منها، وبقيت الأسئلة من دون إجابات واضحة.



80% من المرحلة الأولى
يعود «مشروع الليطاني-قناة 800» إلى سبعينيات القرن الماضي، ويتألف من مرحلتين. الأولى تقوم على تنفيذ ناقل رئيسي وخزانات، تمّ تنفيذ 80% منه بالمجمل بسبب مشاكل التمويل، إذ لم ترد الدولة اللبنانية دفع حصتها البالغة 16% من الأكلاف، أو 64 مليون دولار على سعر 1500 ليرة لكل دولار. وقد انتهى العمل في القسم الممتد من منشأة الرأس في بحيرة القرعون، حتى نفق يحمر، ونُفذت 96% من الأشغال بين مشغرة ومشروع الطيبة، و63% من الطيبة-شقرا، و25% من قسم شقرا-بنت جبيل حتى يارين. كما تمّ تنفيذ 50% من أشغال نظام التحكم عن بعد، و55 من محطة الطاقة الكهربائية الخاصة بالمشروع بقدرة 5 ميغاواط. وفي حال تأمين جزء من التمويل المحلي، تصل مياه القرعون إلى بلدة مجدل سلم في الجنوب، ما يعني إمكانية ري حوالي 5300 هكتار من المساحات الزراعية، بالإضافة إلى إمداد محطة الطيبة بحوالي 25 ألف متر مكعّب من مياه الشرب يومياً.


المرحلة الثانية: دراسات فقط
لم تُنجز المرحلة الثانية من «مشروع الليطاني-قناة 800» بسبب عدم تأمين التمويل اللازم لها البالغ 350 مليون دولار الذي كان مُدرجاً ضمن قائمة المشاريع المطلوب تمويلها من برنامج «سيدر». ولكن ما تمّ إنجازه للمرحلة الثانية هو الدراسات، وملفات التلزيم. وفي هذه المرحلة سيتمّ نقل المياه من الخزانات الرئيسية التي أقيمت في المرحلة الأولى إلى البلدات عبر شبكات توزيع مياه يصل طولها إلى 600 كيلومتر، بالإضافة إلى شق الطرقات الزراعية، وتدريب وإنشاء مزارع زراعية نموذجية.