منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها هدفان معلنان لاتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. ونصت المادة الأولى من الاتفاقية أن على الأطراف المتعاقدة منع أعمال الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها من أجل «تحرير البشرية من هذه الآفة البغيضة». وبذلك، جعلت الاتفاقية منع أعمال الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها إلزامياً وليس اختيارياً. وهذه الواجبات هي الآن أيضاً جزء من القانون الدولي العرفي، وبالتالي فهي ملزمة حتى من دون أي التزام اتفاقي لجميع الدول، بما فيها تلك التي ليست طرفاً فيها. وضمن هذا الإطار العام، تتمتع الدول ببعض السلطة التقديرية في ما يتعلق بالطريقة التي تفي بها بالتزاماتها بمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، ولم تحدد الاتفاقية ماهية الإجراءات لمنع الإبادة، تاركة للدولة/ للدول حرية اتخاذ الإجراءات التي تراها مناسبة وفقاً لقدرتها الذاتية. فما هو مطلوب وفقاً للاتفاقية اتخاذ سلوك فعلي لمنع الإبادة باستخدام الوسائل المعقولة المتاحة للدولة، من بينها الدعوة إلى وقف إطلاق النار الفوري وغير المشروط، اتخاذ خطوات لرفع الحصار ومنع التهجير، وقف المساعدات العسكرية بما في ذلك مبيعات الأسلحة التي من شأنها تمكين أو تسهيل الإبادة، دعوة الأجهزة الدولية المختصة في الأمم المتحدة إلى اتخاذ خطوات عاجلة لوقف انتهاكات حقوق الإنسان، كقطع العلاقات الدبلوماسية ووقف الاستثمارات الاقتصادية والاتفاقيات التجارية مع الجانب المعتدي. من هنا فإن معيار قدرة الدولة على التأثير على مرتكبي الإبادة ذاتي ويختلف من دولة إلى أخرى. وكما أوضحت محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر في قضية البوسنة ضد صربيا (2007) فإن التزام الدول بمنع الإبادة ينشأ منذ اللحظة التي تعلم بها الدولة بوجود خطر جدي بارتكاب الجريمة. وفي ضوء التدابير المؤقتة التي صدرت عن محكمة العدل الدولية في 26 كانون الثاني/يناير، والتدابير الإضافية في 28 آذار /مارس، وبناءً على ما ورد فيها، فإن المحكمة اعترفت باحتمال ارتكاب اعمال إبادة ضد الفلسطينيين في غزة، وأن هناك خطراً حقيقياً متمثلاً في حدوث ضرر لا يمكن إصلاحه ومن ثم فإن مسؤولية الدول في منع الإبادة بدأت منذ اللحظة التي صدرت فيها التدابير المؤقتة ضد إسرائيل. إن الفشل في اتخاذ إجراءات لمنع إسرائيل أو تقديم المساعدة لها قد يجعل الدولة متواطئة إذا ثبت ارتكاب أي فعل من الأفعال المجرمة بموجب الاتفاقية. وقد عرّفت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا التواطؤ بأنه جميع أعمال المساعدة أو التشجيع والتي ساهمت بشكل فعال في إتمام جريمة الإبادة الجماعية أو كان لها تأثير كبير عليها. والتواطؤ لا يتطلب سوى العلم بأن هذا الشخص أو الأشخاص كانوا يرتكبون جريمة الإبادة حتى لو لم تكن لدى المتهم بالتواطؤ نية محددة لتدمير مجموعة بشرية كلياً أو جزئياً. من هنا، على الدول كافة أن تتحمل مسؤوليتها القانونية في التدخل الفوري لحماية الشعب الفلسطيني من الأفعال التي ترتكبها إسرائيل والتي تخطّت العتبة التي يُستند إليها لتقرير وقوع أو عدم وقوع أعمال الإبادة، كما جاء في تقرير مقررة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية الصادر في 25 آذار/ مارس.
وبناءً على ما سبق، يُطرح السؤال التالي: ما هي الإجراءات التي يمكن للدول العربية مجتمعة أو فرادى أن تتخذها لردع إسرائيل ومنعها من ارتكاب أفعال الإبادة؟

إجراءات عربية متاحة تنتظر التنفيذ
في 22 كانون الثاني/ يناير، صدر عن مجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين الدائمين في دورته غير العادية التي عقدت في مقر الجامعة بشأن استمرار جرائم العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، قرار بتشكيل لجنة مؤقتة مفتوحة العضوية من المندوبين الدائمين والأمانة العامة لدراسة إجراءات عربية يمكن القيام بها على المستويات الاقتصادية والقانونية والسياسية والدبلوماسية لتفعيل مضامين هذا القرار، و«إصدار تقريرها وتعميمه على الدول الأعضاء خلال أسبوع من تاريخه». تم تشكيل لجنة المندوبين الدائمين المؤقتة برئاسة المندوب الدائم لدولة الكويت، وعضوية مندوبي 10 دول عربية أخرى والأمانة العامة لجامعة الدول العربية. أنهت اللجنة عملها في أواخر كانون الثاني بإعداد تقرير تضمن 19 إجراء عملياً من الممكن أن تقوم بها الدول العربية على المستوى الوطني أو على المستوى العربي لوقف جريمة الإبادة، مع احترام مبدأ السيادة الوطنية لكل دولة لتتخذ ما تراه مناسباً من إجراءات ضمن الوسائل المتاحة لديها. وتضمّن التقرير قائمة من الإجراءات الاقتصادية والقانونية والسياسية والدبلوماسية المؤثرة التي من شأنها أن توقف العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني لو تم تطبيقها من قبل الدول العربية، وهي:
• تجميد أو تعليق أو إلغاء الاتفاقيات الاقتصادية ووقف جميع أنواع التعاملات التجارية والاستثمارية مع الكيان الصهيوني بما يشمل وقف الاستيراد والتصدير ومقاطعة البضائع والمنتجات الإسرائيلية.
• مقاطعة جميع الشركات ومؤسسات الأعمال التي وردت في قاعدة البيانات المحدثة التي أقرّها مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة لشركات ومؤسسات الأعمال الضالعة في أنشطة داخل المستوطنات الواقعة في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة.
• وقف دعوة أو استقبال المسؤولين ورجال الأعمال الإسرائيليين.
• النظر في إغلاق المجال الجوي للدول العربية أمام الطيران المدني الإسرائيلي.
• وقف جميع الفعاليات الثقافية والرياضية مع الكيان الإسرائيلي إن وُجدت.
• إعلان المنظمات والجماعات والحركات الإسرائيلية المتطرفة التي تقتحم مسجد الأقصى منظمات إرهابية ووضعها على قوائم الإرهاب الوطنية العربية واعتماد قائمة على مستوى جامعة الدول العربية توضع عليها تلك المنظمات الإرهابية.
• إعلان قائمة «العار» لتشمل الشخصيات الإسرائيلية التي تبث خطاب الكراهية والتحريض عليها تمهيداً لاتخاذ إجراءات قانونية ضدها.
• رصد جميع الدول والشخصيات والجهات التي تسوّق لتهجير الفلسطينيين تمهيداً لاتخاذ إجراءات قانونية ضدها على المستويين العربي والدولي.
• خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي للدول العربية التي تعترف بالكيان إثر صدور التدابير المؤقتة ضد إسرائيل من قبل محكمة العدل الدولية.
• الانضمام إلى دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل.
• تقديم إحالات وشكاوى عربية إلى المحكمة الجنائية الدولية وحث المدعي العام على اتخاذ خطوات حقيقية وملموسة بفتح تحقيق حول جرائم الكيان الصهيوني.
• العمل مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية لفتح تحقيق حول استخدام إسرائيل لأسلحة كيميائية محظورة في الأراضي الفلسطينية وجنوب لبنان.
• تشكيل وفود عربية إغاثية لإدخال المساعدات الإنسانية تنفيذاً للتدابير المؤقتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية وتنفيذاً لقرار كسر الحصار على قطاع غزة الذي تبنته قمة الرياض المشتركة العربية - الإسلامية في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.
• تشكيل وفد عربي برئاسة الأردن لترتيب زيارة عاجلة لمدينة القدس لتقييم الأوضاع في المسجد الأقصى.
بناءً على ذلك، يتضح من الناحية القانونية أن لدى الدول العربية العديد من الخيارات التي يمكن أن تلجأ إليها للتأثير على إسرائيل. ولكن، حتى الآن، لم يُتخذ أي إجراء مؤثر من تلك التي وردت في التقرير. فعلى سبيل المثال، بإمكان الأردن ومصر الانضمام إلى دعوى جنوب أفريقيا، أو أن يقدما طلب إقامة دعوى ضد إسرائيل على أساس انتهاكها للقانون الدولي الإنساني كما فعلت نيكاراغوا في الدعوى المقدمة من قبلها ضد ألمانيا. كذلك بإمكان الأردن، العضو في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، أن يرفع شكوى مستقلة إلى مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أو أن ينضم إلى الشكوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا وبنغلادش وبوليفيا وجزر القمر وجيبوتي. كذلك أمام كل من مصر والأردن خيار قانوني إضافي وهو تعليق اتفاقيات التعاون مع الكيان، ولمصر أن تضغط على الكيان الصهيوني بإلغاء كامب ديفيد أو أقله تعليقها ليس فقط لمنعها من اجتياح رفح ولكن من أجل وقف المجازر التي ترتكبها إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أو أن تسحب سفيرها من تل أبيب كما فعلت عدد من دول أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا. والأمر نفسه ينطبق على الأردن بتعليق اتفاقية وادي عربة واتفاقيات أبراهام بالنسبة إلى البحرين والإمارات. كذلك يمكن للدول العربية الخليجية الضغط على حلفاء الكيان الصهيوني وعلى رأسهم الولايات المتحدة من خلال إعادة النظر في وضع القواعد العسكرية الأميركية على أراضيها وخفض أو إلغاء التعاون العسكري معها.
الواجب القانوني يحتّم على الدول العربية اتخاذ موقف موحّد يعفيها أقله أو يبعد عنها شبهة التواطؤ أو التقاعس


أما على المستوى الدولي، وتطبيقاً للمادة الثامنة من اتفاقية منع الإبادة التي تنص على أنه «لأي من الأطراف المتعاقدة أن يطلب من أجهزة الأمم المتحدة المختصة أن تتخذ طبقاً لميثاق الأمم المتحدة ما تراه مناسباً من التدابير لمنع وقمع أفعال الإبادة أو أي من أفعال الإبادة المذكورة في المادة الثالثة»، تستطيع الدول العربية التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة وتخطي مجلس الأمن، بموجب قرار الاتحاد من أجل السلام، لطرح مشروع قرار برفع عضوية فلسطين من مراقب إلى عضو كامل في الأمم المتحدة، والمطالبة في الوقت نفسه بمعاقبة إسرائيل بخفض عضويتها إلى عضو مراقب لانتهاكاتها المتكررة لميثاق الأمم المتحدة ولارتكابها شتى أنواع الجرائم الدولية، والتهديد بطردها من المنظمة ما لم تمتثل للتدابير المؤقتة ولقرار مجلس الأمن 2728 المتعلق بوقف إطلاق النار، عملاً بالمادة السادسة من ميثاق الأمم التي تنص على أنه «إذا أمعن عضو من أعضاء الأمم المتحدة في انتهاك مبادئ الميثاق، جاز للجمعية العامة أن تفصله من الهيئة بناءً على توصية من مجلس الأمن». كذلك التوجه إلى الوكالات الدولية الأخرى التابعة للأمم المتحدة بتعليق عضوية إسرائيل وحرمانها من حق التصويت.



هل من جدوى لتلك الإجراءات؟
تؤكد محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر في قضية البوسنة ضد صربيا، أن الدول «تتحمل مسؤولية استخدام جميع الوسائل المتاحة لها بشكل معقول لمنع الإبادة قدر الإمكان»، ولا سيما الدول التي لديها القدرة على التأثير بفعالية على الدولة المعنية بارتكاب أعمال الإبادة. وتترتب المسؤولية إذا أخفقت الدولة/ الدول بشكل واضح في اتخاذ جميع التدابير لمنع الإبادة في نطاق سلطتها. ولا يجوز للدول أن تعتمد على افتراض أن أفعالها لن تكون كافية لمنع ارتكاب الإبادة لأنه لا يمكن التنبؤ بذلك في المقام الأول. بل على العكس، إذا تصرفت كل دولة على حدة فإن الجهود المتضافرة لعدة دول قد تحول دون ارتكاب الإبادة أو المزيد من الأعمال التي تدخل ضمن نطاق جريمة الإبادة.
لا يمكن لعدوان إسرائيل وارتكابها لفظاعات وجرائم حرب وإبادة أن تمر بدون عقاب ولا يمكن التعامل مع الكيان على أن شيئاً لم يحدث. ما يجري في غزة خلق وضعاً جديداً لا يطرح فقط تحديات قانونية بل تحديات أخلاقية إنسانية. الواجب القانوني يحتّم على الدول العربية اتخاذ موقف موحّد يعفيها أقله أو يبعد عنها شبهة التواطؤ أو التقاعس عن عدم القيام بالتزاماتها القانونية وفقاً لاتفاقية منع الإبادة.