تونس | بدأت فصول المواجهة بين الرئيس التونسي، قيس سعيد، و«الاتحاد العام التونسي للشغل»، بعد قرابة سنتين من صمت الأخير وتحفّظه في التعامل مع الأزمة الداخلية. ونجحت المنظمة الأعرق في البلاد في حشد الآلاف أمام مقر رئاسة الحكومة في العاصمة، أول من أمس، تنديداً بالوضع الاجتماعي والاقتصادي المتردي، فيما تتوقع قياداتها تحركاً من الرئيس في اتجاه الحوار الاجتماعي، وعدولاً عن مواقفه الحادة التي حملت تشكيكاً في نزاهة «الاتحاد» ووطنيّته، واتّهاماً لقياداته بالفساد والمحسوبية والتطاول على مؤسسات الدولة. وفيما كانت قيادات «اتحاد الشغل» حذرة في تصريحاتها قبيل التحرك الاحتجاجي، إذ بدت أنّها لا ترغب في التصادم مع الرئاسة ووضعها في خانة المسؤول المباشر عن تعثّر الحوار الاجتماعي وتراجع الحكومة عن تنفيذ اتفاقاتها، وحتى عن تواتر الاعتقالات لقيادات نقابية في قضايا فساد، قال أمين عام «الاتحاد»، نور الدين الطبوبي، في كلمة في ساحة القصبة، إن الاتحاد «لا يقبل تكميم الأفواه وزرع الرعب والتخويف والتخوين». ودعا الطبوبي، ساخراً، النقابيين، إلى تهيئة أنفسهم لإمكانية سجنهم، في عبارة وجّهها إلى زوجة النقابي أنيس الكعبي، القابع في السجن منذ نحو سنة، قائلاً: «الكل سيذهب (إلى السجن)، ليس أنيس الكعبي فقط». وإذ يأتي ذلك وسط تنامي الملاحقات القضائية وأحكام السجن بحق عدد من النقابيين، وآخرها اعتقال الأمين العام المساعد في «الاتحاد»، الطاهر البرباري، على خلفية قضية رُفعت ضده حول «تحقيق مكاسب وهدر المال العام»، ثم الإفراج عنه، عبّر الطبوبي، مجدداً، عن عدم رغبة الاتحاد في التصادم مع مؤسسات الدولة، منتقداً ما اعتبره سوء فهم الرئاسة لـ«حكمة الاتحاد» في التعاطي مع الأزمة السياسية في ظل منعرجات خطيرة تتخذها الأوضاع إقليمياً، من الممكن أن تلقي بظلالها بشكل خطير على البلاد، معرباً عن أمله في أن يلتقط سعيد الرسائل من نجاح الاحتجاج. إلا أن كل ما تقدّم لم يشفع للمنظمة صاحبة الأدوار المحورية في إخراج البلاد من أزماتها، إذ اتهمها سعيد، قبل مغادرته نحو الجزائر للمشاركة في «قمة مصدّري الغاز»، بتأجيج الأوضاع الاجتماعية، في ما يؤشر إلى خشية سعيد من استعادة «الاتحاد» للشارع وتجييشه ضده. وقال الرئيس، خلال لقائه مع وزير الداخلية كمال الفقي ومديري الشرطة والدرك، الأربعاء الماضي، إن «مجهودات الدولة يجب أن تتضافر لتطبيق القانون وتفكيك شبكات لا تسعى فقط إلى الربح غير المشروع، بل أيضاً إلى تأجيج الأوضاع الاجتماعية بأي طريقة كانت»، في إشارة إلى تظاهرة السبت. وأضاف سعيد أن «هذه الشبكات توزّع الأموال في عدد من المحافظات من أجل دفع المواطنين للمشاركة في احتجاجات مدفوعة الأجر غايتها حقيرة ومفضوحة»، محاولاً بذلك تخويف التونسيين من التورط في ما يسمّيه «مخططات التآمر»، بخاصة أنّ شبهة «التآمر» باتت كفيلة بوضع الأشخاص في الاعتقال لأشهر أو ربما لسنوات، كما هو الحال مع قيادات أحزاب «النهضة» و«الجمهوري» و«التيار» و«جبهة الخلاص». كما وصف بيان لرئاسة الجمهورية قيادات الاتحاد بـ«مزيفي الحقائق وملبسي الحق بالباطل».
لم تقتصر الاتهامات على «اتحاد الشغل»، بل طاولت بعض المنافسين المتوقّعين له


ومن المفارقات أن وزير الداخلية الذي يستمع مراراً إلى خطابات التخوين والتشكيك تجاه «الاتحاد»، كان قد تقلّد مناصب قيادية في «نقابة قطاع الأداءات» التابعة للمنظمة، فضلاً عن آخرين كان قد اختارهم الرئيس قبله، من مثل وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي، المسؤول الأول عن تعطيل المفاوضات مع الاتحاد حالياً، ووزير التربية محمد علي البوغديري، الذي كان أميناً عاماً مساعداً للمنظمة خلال عهدة الطبوبي الأولى على رأس «الاتحاد». والجدير ذكره أن هؤلاء يتبنّون طرحاً مغايراً لقيادات «اتحاد الشغل»، لاعتبارهم أن مشروع الرئيس مهما بلغ سوؤه، لن يضرّ بالبلاد بقدر الضرر الذي ستحدثه مواصلة حركة «النهضة» وحلفائها استلام الحكم.
وفي المقابل، اختار سعيد هؤلاء لخلق أزمة في داخل المنظمة وإحداث الانشقاقات فيها. ففي الوقت الذي أعلن فيه «الاتحاد» عدم المشاركة في الحكومة الأخيرة، فوجئ باختراق صفوفه وقبول البوغديري وزارة التربية، ما أدى إلى خصومة علنية مع رفاقه القدامى. وبدا أن حاجة سعيد إلى هؤلاء تمثّلت في فهم ديناميكيات العمل النقابي، وهامش الفعل الممكن لاختراق منابره، بهدف هزّ صورتها مجتمعياً وإضعاف دورها السياسي وتحجيم قدرتها على حشد الجماهير، ولا سيما أثناء تنفيذه إملاءات «صندوق النقد الدولي» الموجِعة، والتي انتقدها «اتحاد الشغل» مراراً، وأخيراً أثناء التظاهرة.
على أنّ اتهامات سعيّد لم تقتصر على «اتحاد الشغل»، بل طاولت بعض المنافسين المتوقعين له؛ إذ ذكّر بتبجّحهم بإعلان منظمات صهيونية مساندة حملاتهم الانتخابية السابقة، ملمحاً بذلك إلى رئيس حزب «قلب تونس» نبيل القروي، وإلى «حركة النهضة» التي دعمت حملتها شركة دعائية أميركية يقودها صهيوني، في ما يُعرف بقضية «اللوبيينغ». أيضاً، أشار إلى تبجّح البعض، عبر منابر فرنسية، بمساندة الاحتلال في جرائمه بحق الفلسطينيين، في إشارة إلى صاحب «مركز الدراسات الإستراتيجية» حمادي الرديسي، الذي دان المسيرات المساندة لفلسطين في وسائل إعلام فرنسية، محدثاً صدمة في صفوف التونسيين، خصوصاً أصدقاءه من المثقفين وطلبة القانون الذين تتلمذوا على يديه. على أن الرئيس الذي لم يخطئ في تساؤله عن مرور هذه الأفعال من دون جزاء قانوني أو دعاوى قضائية، أغفل أنّ قانون تجريم التطبيع لم تتم المصادقة عليه في البرلمان بطلب منه، وبالتالي لا جريمة من دون نصّ قانوني يوضح أركانها وجزاءها.