من ناحية أخرى، بدا لافتاً التناغم بين خطابَي سعيد ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون، الذي قابله بود بالغ، داحضاً الحديث حول فتور في العلاقات مع الجزائر، مردّه محاولة دول خليجية دفع تونس إلى التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، مقابل تمكينها من قروض تتيح تحقق انفراجة اقتصادية لديها، وهذا ما اعتبرته الجزائر استهدافاً مباشراً لها، وسعت بكل الوسائل إلى محاربته - خشية أن تحاصرها الصهيونية شرقاً، بعدما حاصرتها غرباً بتطبيع المغرب -، قبل أن ترفض الرئاسة التونسية العرض، وإن ظلّ مستوى تفاعلها مع معركة «طوفان الأقصى» دون المأمول. كذلك، برز لقاء سعيد بالرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والذي طغت عليه درجة من الانسجام غير معهودة بين البلدين، وجاء من دون محادثات تمهيدية أو دراسة مسبقة، وتخلّلته دعوة الأول رئيسي إلى زيارة بلاده، الأمر الذي قابله الأخير بخطوة مماثلة.
لعلّ الضغط الغربي الممارس على سعيّد، دفعه نحو قوى إقليمية تقودها رغبة في تحجيم التأثير الأوروبي في القارة
والظاهر أن الضغط الممارس على سعيّد من قِبل الدول الغربية، دفعه إلى المشاركة في القمة، والارتماء في أحضان شركاء إقليميين جدد تقودهم رغبة في تحجيم التأثير الأوروبي في القارة الأفريقية، وفي مقدمتهم روسيا وإيران والجزائر. وهنا، قد يكون أسوأ السيناريوات بالنسبة إلى فرنسا وحلفائها، أن تتقارب تونس مع طهران لتكسر الحصار الدولي على الأخيرة، والذي انخرطت فيه الأولى بشكل أو بآخر لعقود، عبر محافظتها على علاقات ضعيفة مع الجانب الإيراني. وبالمثل، لن تحظى هذه المستجدات بترحيب قوى إقليمية كثيرة، في مقدمتها السعودية والإمارات، فيما الواقع بقول إن هذه القوى لم تترك لسعيد مهرباً آخر سوى طهران وموسكو، بعد حصار مالي لمدة سنتين امتنعت فيه ليس فقط عن الاستثمار المباشر في تونس، بل وعمدت إلى تعليق التزامات سابقة تحت ذريعة عدم قدرة تونس على السداد. فبعدما احتفت كل من السعودية والإمارات بإسقاط سعيد للحزب «الإخواني» من الحكم، اشترطتا عليه تسوية مع «صندوق النقد الدولي» قبل تقديم أي قروض أو تمويلات، وهذا ما زاد الأمور تعقيداً، فيما كان يتوقع حاكم قرطاج دعماً خليجياً منقطع النظير منذ استحواذه على الحكم في 25 تموز 2021. وفي السياق، من المتوقع أن تلقي خطوات سعيد الأخيرة بظلالها على المفاوضات الجارية مع «النقد الدولي» والمنظمات المانحة؛ إذ في حال تمكّن من إيجاد مصادر تمويل جديدة، لن يكون مجبراً على تطبيق إملاءات «الصندوق» التي ماطل في القبول بها، نظراً إلى ما ستخلّفه من آثار مدمرة على الوضع المعيشي التونسي، وبالتالي تهديد شعبيته وحظوظه في الانتخابات المقبلة.
على خطٍّ مواز، اتّخذ الرئيس التونسي خطوة تصعيدية أخرى «مزعجة» لـ«الحلفاء القدامى»، تمثلت في محاولته استعادة دور محوري في الملف الليبي، بعد أن فرّطت تونس بهذا الدور تحت ضغط فرنسي وأميركي. إذ أعلن سعيد أن اجتماعاً تنسيقياً ثلاثياً، بين كل من تونس والجزائر وليبيا، سينعقد في تونس العاصمة لبحث الملف الليبي عقب انتهاء شهر رمضان، معلناً أن هذه الاجتماعات ستتكرر كل ثلاثة أشهر لتدارس مستجدات الملف وإحياء «اتحاد المغرب العربي». ويأتي ذلك وسط غياب المملكة المغربية التي اتفقت كل من تونس والجزائر على تقليص العلاقات معها إلى الحد الأدنى، نتيجة تطبيعها مع الكيان أولاً، واتباعها سياسة انتهازية لا تراعي مبدأ حسن الجوار ثانياً. وفي ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، أسهب سعيّد، في مداخلاته كافة، في التذكير بالحق الفلسطيني، حاضاً الدول الحامِلة لفكر مناهض للصهيونية والهيمنة الأميركية على البحث عن أطر تنسيقية جديدة، تكون بمنزلة ملاذ يحميها من أي حصار أميركي - صهيوني، ومجدداً دعوته إلى وضع أسس جديدة لنظام عالمي لا تسيطر فيه قوى على مصير الشعوب وتهدد أمنها واستقرارها متى رفضت هيمنتها.