كما لبيتم نداء 16 أيلول للدفاع عن لبنان في وجه الإرهاب الصهيوني، أنتم مدعوون اليوم إلى التصدي لهذا المسار الانتحاري الذي تمارسه المنظومة السياسية
من هنا نضج ذلك الوعي الثوري المتحرر، من سجن الطوائف وولاءاتها وضعفها، ليكسر منطق «القوة في الضعف» إلى آخر هو «منطق القوة في المواجهة المباشرة»، وليُطلق مسار أسس لقيام مقاومة وطنية لبنانية ببعد تحرريّ، تنتصر لقضايا التحرر، وتنحاز لدعم فقراء لبنان وتعمل على تحسين أوضاعهم ورفع مستواهم الاجتماعي، من خلال المبادرات الأهلية والسياسية والاجتماعية، مجسدةً بذلك منطق التحرير والتغيير كمسار واحد ولكن بمهام متعدّدة. وعلى تلك الأرضية، كان ضرورياً أن تصبح مقاومة الاحتلال الصهيوني مدخلاً جدياً لتغيير بنية النظام السياسي ووظيفته، والذي استجلب القريب والبعيد، وارتكب ونكّل وقتل وجوّع وحرّض... غير آبه إلّا بمصالح أربابه، من زعماء الطوائف وحيتان المال المتحالفين معه حدّ الاندماج. هو الواقع نفسه الذي أجهض لاحقاً الانتصارات المحققة على العدو، من تحرير بيروت والجبل وصيدا وصور والنبطية وباقي الشريط المتاخم لفلسطين المحتلة، وهو الذي أجهض أيضاً صمود تموز الكبير، والذي عبّر عن وحدة معركة جدّية في وجه عدو لم يتعلّم من دروس فراره من لبنان عام 2000 تحت جنح الظلام. وبالنتيجة، فإن هذا الواقع أجهض قيام حياة سياسية طبيعية في لبنان، وجعلها مدخلاً للارتزاق ولبناء الولاءات، وهو الذي قضى على أيّ مبادرات إصلاحية، على ندرتها، محولاً السلطة إلى مكان للتحاصص والفرز والتوتير والتدخل والتعطيل. وهو الذي يقف اليوم متكافلاً متضامناً، بالرغم من تناقضاته الكبيرة، ليمنع أيّ مسّ بتركيبة النظام السياسي وبنيته، ومدافعاً أيضاً عن النظام الاقتصادي الذي أودى بأكثرية الشعب اللبناني إلى هاوية الجوع والفقر المدقع وطوابير الذل والموت على الطرقات وعلى أبواب المستشفيات. وهو الذي، لن يتوانى عن استجلاب التوتير الأهلي، حتى ولو وصل إلى مرحلة سفك الدماء، وهذا ما جرى ويجري في غير منطقة لبنانية، بين فقراء وفقراء، بين جوعى وجوعى، بين متضررين ومتضررين.
هو، هذا النظام السياسي القائم، صاحب الأبواب المشرّعة والمفتوحة على استجداء أيّاً يكن في سبيل تغليب فئة على أخرى في لعبة مكشوفة وواضحة المعالم؛ نظام لا يتورّع بعض أصحابه عن استدعاء التدخل الخارجي والحصار وحتى الاحتلال إذا لزم الأمر. ومع ذلك يختلفون على المحاصّة ويجتمعون على «الشراكة الداخلية» كمكونات مذهبية تؤازر بعضها بعضاً. هذا الانفصام المعيشي هو التركيبة السحرية التي تمدّ هذا النظام بإكسير الحياة المستدامة، والذي يعطّل ويقسم ويفرّق... ولكن في النهاية تنتصر «الشراكة» بين مكوناته، فيستوون على صراط قويم. هذا البلاء، الذي ألمّ بهذا البلد، لم يكن وباءً جاء مصادفة، بل هي وصفة خبيثة وضعها من تنبأ بمستقبل هذه المنطقة، الواقعة بين وسط آسيا والمحيط الأطلسي بموقعها الاستراتيجي وبما تختزنه من إمكانات وخيرات، فوضع تلك النظم المشتبه فيها كي تقوم بالأدوار المطلوبة منها على أفضل وجه، وهذا الذي جرى ويجري اليوم وعلى امتداد كل ساحاتنا العربية.
إن لبنان، الواقع اليوم على حافة الارتطام الكبير بنتيجة السقوط المدوي، الذي سببته ممارسات سلطوية أقل ما يقال فيها إنها مافياوية، قد استبدت به منظومة حكم متوارث أوصلت شعبه إلى القعر فبات معها يستجدي لقمة العيش وحبة الدواء، فيما أصحاب «المعالي» يتقاتلون على ما تبقى من جلد الدب المقتول منذ حين. هو ذلك المسار الانحداري بقيمه وأخلاقه وممارساته وبناه وهياكله، المستعصي على الإصلاح الذي لن يُبقي للبلد قائمة تقوم. فإلى شعبنا اللبناني نقول: كما لبيتم نداء 16 أيلول للدفاع عن لبنان في وجه الإرهاب الصهيوني تنظيماً للمقاومة الوطنية، أنتم مدعوون اليوم، إلى جانب كل القوى، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والشبابية، على امتداد ساحات الوطن، وفي كل القطاعات، إلى التصدي لهذا المسار الانتحاري، الذي تمارسه منظومة سياسية مرتكزة إلى نظامها وآليات حكمها، ومدعومة من سلطتَي الطوائف ورأس المال، ومن خارج يمدّها بكل ما تطلب لضمان استمرار ديمومتها. هو استحقاق بمجالات عديدة؛ فلنستعِد الشارع من التوتير والمتاريس الطائفية، وقضايا الناس من سلطة المهزلة التي تملأ الشاشات، والنقابات والروابط والقطاعات المسيطر عليها والمصادرة من أزلام السلطة والمنتفعين، والكرامة الإنسانية المسفوكة على طوابير الذل أمام المحطات والأفران والمستشفيات... لنسترِدّ نبض الشارع الذي انتصر للمقاومة والتغيير، ولتكن كل ساحات لبنان وقراه ومدنه مكاناً لإطلاق حالة اعتراض تطرح بديلاً نقيضاً للسائد ومنحازاً إلى أكثرية شعبية مسحوقة اليوم. هو مسار صعب وشائك في ظل مافيات تسود وتحكم وتتحكم، لكن لا بدّ من خوضه: فلننتظم في المواجهة اليوم، كلّ من موقعه، ولنجعل من الالتزام بقضايا الناس والدفاع عنها المعيار الذي يجمع الجميع ويستوعب الكلّ بعيداً عن الأنانية والاستئثار ورفضاً لأيّ تدخل أو مصادرة من أية جهة أتت، علّنا بذلك نكمل المسار الذي لم ينتهِ بعد ولن ينتهي.
* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني