يعود الصراع شبه الأبدي بين ضفتَي المتوسط إلى ما قبل الميلاد. بدأ بحملة الإسكندر المقدوني الشرقية مجتاحاً مصر وبلاد الشام وصولاً إلى بلاد فارس منتصف القرن الخامس ق.م، وما تلاها بعد قرن واحد من غزو القائد القرطاجي هانيبعل الذي امتد من إسبانيا وفرنسا إلى إيطاليا التي كانت قد انتصرت على والده في الحرب البحرية بين روما وقرطاجة. وما تبع ذلك من حروب ممتدة بين إمبراطوريتي الفرس والروم، دامت لعدة قرون.ومع نهوض المشرق تحت رايات الدولة الإسلامية كان الزحف الممتد في شمال أفريقيا، يجتاز المضيق الذي عُرف مذاك باسم طارق بن زياد ويجتاح إسبانيا وجنوب فرنسا ليقيم هناك حكماً عربياً دام قرابة السبعمئة سنة. ثم كان الرد بالحملة (الصليبية) الأوروبية، على المشرق بدعوى استعادة السيطرة على مسقط رأس السيد المسيح في مطالع الألفية الميلادية الثانية، التي احتلت فلسطين ومناطق واسعة من بلاد الشام ودام وجود دويلاتها هناك لأكثر من مئتي سنة.
وبعد نشوء الدولة العثمانية في تركيا كانت حملة السلطان محمد الفاتح الأوروبية تستولي على إستانبول عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، ثم تواصل اجتياحها لدول البلقان وصولاً إلى النمسا حيث حاصرت عاصمتها فيينا.
بعد ذلك كانت حملة نابليون على الجناح الجنوبي الشرقي للمتوسط حيث قام باحتلال مصر ثم واصل حملته شرقاً نحو بلاد الشام.
في سياق هذا الصراع الأبدي، افتتح الحلفاء الغربيون أبواب القرن العشرين بعد انتصارهم في الحرب العالمية الأولى بمشروع «سايكس-بيكو» الذي جمع ما بين الاستيلاء على الضفتين الجنوبية والشرقية للمتوسط وبين تمزيق خرائطهما إلى نتف كي يستحيل معها أن تتشكل منها كتلة أو كيان موحّد يعيد بناء نفسه ويتمرد على هذه السيطرة الغربية المستجدة والمدجّجة بكل مستحدثات العصر من أدوات القوة.
فوق ذلك كله وترسيخاً له، قاموا بزراعة الكيان الصهيوني في فلسطين (موقع القلب من هذه الخرائط) كعامل تفتيت إضافي يضمن تأبيد التمزق واستمرار السيطرة الغربية على هذا الجزء المركزي من خريطة العالم.
كل ما جرى في هذه المنطقة بعد ذلك من صراعات وحروب وتوترات وغيرها على امتداد أكثر من قرن كامل من الزمان كان يتم في بوتقة هذه الطبخة الغربية المسمومة لضمان السيطرة على بلادنا العربية بكل ما تكتنزه أرضها من ثروات وما تتمتع به من موقع استراتيجي في قلب العالم ومفترق مواصلاته البرية والبحرية والجوية، وبكونها بوابة الاستعمار الغربي إلى عمق قارتَي أفريقيا وآسيا (كان الزعماء البريطانيون يعلنون بكل صراحة أن احتلالهم لمصر يشكل حماية لطريقهم إلى الهند!).
كل ما تمسك به الغرب من سياسات تجاه هذه المنطقة كان يتلخّص بأمرين:
1- الحرص على الخرائط الممزقة التي رسمها الغرب، والتصدي لأي مشروع وحدوي يمكن أن يرتقي بالقوة الذاتية للمنطقة.
2- الحرص على الكيان الصهيوني وضمان تفوقه عسكرياً على الدول العربية مجتمعة. فتولوا دعمه بكل مقوّمات القوة وصولاً إلى القوة النووية التي توصّل إليها بدعم فرنسي وحماية أميركية حتى بات لديه ما يزيد على مئتي رأس نووي خارجة عن أيّ مراقبة دولية وبالضد من الاتفاقية الدولية لمنع انتشار الأسلحة النووية وبرضى وصمت من قبل كل الدول العظمى التي تثير الحملات وراء الحملات ضد أي نشاط نووي حتى ولو كان سلمياً في أي دولة أخرى من دول المنطقة بل من دول العالم كله (إلا إسرائيل)!
وبعد أن ضمن الغرب لهذا الكيان الانتصار في جميع حروبه مع البلدان العربية المجاورة، انتقل في النهاية من مستوى فرض وجود الكيان الصهيوني وترسيخه في المنطقة، إلى فرض سطوته عليها! ودخل، بعد ذلك، تحت مسمى التسويات السلمية والسياسية، في مرحلة جديدة هي فرض سيطرته عليها! أو ما عُرف خداعاً بالتطبيع معها.

تمزيق المُمزّق
وقد ساهم انتصار هذا الغرب في الحرب الباردة في العقد الأخير من القرن الماضي وتفرّد الولايات المتحدة بموقع القوة العظمى في هذا العالم، في دعم هذا المشروع الغربي وتحقيقه نجاحات كبيرة ومتلاحقة. لعل أبرزها كان تدمير عدد من البلدان العربية الأساسية في المنطقة سواء بالغزو المباشر كما جرى للعراق، أو بالاستيلاء على انفجارات الربيع العربي وتجييرها لصالح هذا المشروع التفتيتي المتجدد كما حصل في مصر وليبيا وسوريا والسودان واليمن. وقد نجم عن ذلك وأعقبه عملية هجرة وتهجير «فوضوية» واسعة جداً هدفها تفريغ هذه البلدان من كثافتها السكانية الأصلية تمهيداً لإحداث تغييرات ديموغرافية خطيرة جداً، مع أنها غير واضحة الحدود حالياً.
وفي ظلال هذا الوضع المستجد، وتفرد إسرائيل بموقع الدولة الأقوى في المنطقة، كان «طبيعياً» إلى حد كبير أن تحقق مشاريع التطبيع نجاحات كبيرة تحوّلت معها إلى شبكة أخطبوطية تغطي المنطقة بأرجائها الأربعة. بحيث تسيطر فيها على جوارها بالتطبيع مع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، وتمد أحد أذرعها شرقاً باتجاه الخليج بالتطبيع مع الإمارات والبحرين، وآخر غرباً مع المملكة المغربية، ثم جنوباً مع السودان وشمالاً مع مشروع الدولة الكردية في شمال العراق وشمال سوريا.

أميركا تولّي إسرائيل على المنطقة!
تواكب ذلك مع حصول تطور جديد وكبير في الوضع الدولي حيث جوبه الاستفراد الأميركي ببروز الصين كمنافس اقتصادي وسياسي وحتى عسكري في الجناح الشرقي من العالم، مضافاً إليه استعادة روسيا لشيء لا يستهان به من قوتها، ما شكّل تحدياً جديداً للقوة الأميركية وهيمنتها المطلقة على العالم، دعاها للقيام بانعطاف استراتيجي كبير لنقل التركيز الأساس من قواها (نحو أوكرانيا في الشمال الأوروبي، والمحيطين الهندي والهادي في الشرق الآسيوي) لمواجهة هذا التحدي الجديد.
ولعل الخطوة الأخيرة في هذا السياق كانت مشروع تحقيق التطبيع مع المملكة العربية السعودية. باعتبارها الدولة العربية الأغنى والأهم (في ظل الوضع العربي الحالي) قومياً ودينياً. وقد بلغت المفاوضات التي رعتها الولايات المتحدة بشكل حثيث درجة كبيرة من التقدم دلّل عليها حديث ولي العهد السعودي لمحطة «فوكس نيوز» الأميركية في العشرين من أيلول الماضي.
عن هذا الأمر يتحدّث المحلل السياسي الأميركي أندرياس كلوث (لوكالة «بلومبرغ» أواخر شباط الماضي) ليقول: «حاول الرئيس بايدن ترتيب اتفاق تطبيع بين السعودية وإسرائيل بهدف تهدئة منطقة الشرق الأوسط تدريجياً ومحاصرة إيران. وكان المفترض أن يسمح هذا للولايات المتحدة بتقليل وجودها في الشرق الأوسط لحشد قوتها في آسيا والمحيط الهادي حيث مصالحها الجيوسياسية فيها أوضح».
وكان ذلك كله مترافقاً مع تجاهل القضية الفلسطينية وتهميشها وإطلاق العنان لحكومة اليمين الصهيوني الفاشي بقيادة نتنياهو لدفن مشروع «حل الدولتين» وإطلاق العنان لعملية القضم المتوحش للأرض الفلسطينية كلها من قبل قطعان المستوطنين الذين أصبح لهم ممثلون مهمون في الحكومة من عتاة المتطرفين كبن غفير وسموتريتش. وقد وصل الأمر برئيس الوزراء الإسرائيلي، صاحب شعار «السلام مقابل السلام» كتجاوز للشعار العربي الرسمي الذي كان يقول الأرض مقابل السلام، إلى درجة قيامه، بتاريخ 23 /12/ 2023، من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، برفع خارطة لمنطقة الشرق الأوسط تغطي فيها دولة إسرائيل كامل مساحة فلسطين التاريخية، أي الضفة الغربية وقطاع غزة!
في ظل هذه التطورات المتلاحقة، بدا أن القضية الفلسطينية دخلت في مرحلة من التلاشي: فلسطينياً، بضمور الدور الوطني لسلطة أوسلو، واشتداد خناق الحصار المطبق على قطاع غزة. وعربياً، بتقلص حضور هذه القضية على موائد الأنظمة العربية التي بدا أنها استسلمت كلياً لمعطيات هذه الهيمنة الغربية المطلقة، وباضمحلال الدور العربي الشعبي في كل قضايا الأمة!

«طوفان الأقصى»
في الوقت الذي بدا فيه أن العالم العربي كله قد استكان لهذه الحال من الهزيمة والتمزق والاستسلام، حدثت المفاجأة المذهلة التي هزّت العالم كله وفي مقدّمته عواصم الغرب التي كانت غافلة (في زهو ما اعتقدت أنه انتصارها التاريخي النهائي في صراع ضفتي المتوسط الأبدي) عما يُهيأ في أنفاق غزة ودهاليزها!
ولعل خير تعبير عن هذه الحال هو الهرولة غير المسبوقة في التاريخ لقادة الدول الغربية وزعمائها إلى تل أبيب، حيث الفجيعة الكبرى بما حدث في غلاف غزة، صباح السابع من تشرين الأول الماضي.
إنه طائر الفينيق الفلسطيني الذي تناسى العالم مسيرته الملأى بأمثال هذه المفاجآت، حيث لم تكن تُجهض له انتفاضة أو ثورة على امتداد تاريخه النضالي إلا لتنهض من بين أنقاضها انتفاضة أو ثورة جديدة أشد عزماً وأكثر تطوراً ومضاء.
طبعاً لا ضرورة لاستعراض أحداث هذا «الطوفان»، فجميع أنظار العالم متجهة نحوه منذ انفجاره قبل أربعة أشهر ونيف، ولا تزال معاركه التي يبدي فيها الشعب الفلسطيني صموداً لا نظير له، وتخوض مقاومته معارك تشكل إعجازاً غير محدود في مواجهة الجيش الإسرائيلي المدعوم بجسرين بري وجوي يمدانه بكل ما في ترسانة الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية من أسلحة. إنما تستوقفنا هرولة زعماء العالم الغربي والدفع الفوري بحاملات الطائرات والغواصات وما رافقها من قطع الأسطولين الأميركي والبريطاني إلى البحر الأبيض المتوسط. فمن الواضح جداً أن مهمة هذه الأساطيل لا يمكن أن تكون خوض الحرب ضد مقاتلي حركة «حماس» الصامدين في شبكة أنفاقهم المتشعّبة في عمق أراضي قطاع غزة!

مهمة الأساطيل الغربية
أمام الانهيار السريع والمذهل للدفاعات الإسرائيلية في غلاف غزة، وسيطرة مقاتلي «حماس» على المواقع والمراكز العسكرية في ذلك المحيط، وسقوط العدد غير المسبوق في أيّ حرب عربية –إسرائيلية، من القتلى والجرحى والأسرى العسكريين والمدنيين الإسرائيليين، اكتشف الأميركيون على الفور أن هذا الكيان الذي بنوا عليه الآمال وتبنوه كوكيل أمني لهم على المنطقة كلها، قد رسب في الامتحان ولم يعد بمقدورهم الرهان عليه للاستمرار في هذه المهمة. وهذا ما أشعرهم على الفور بحصول فجوة أمنية كبيرة ومفاجئة في خريطتهم الدفاعية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، ما دفعهم للعمل على سدّها بأسرع ما يمكن فكان تحريك القطع البحرية الكبيرة بتلك السرعة المذهلة إلى المنطقة!
إنّ الرد الإسرائيلي الوحشي الذي انطلق على الفور ضد قطاع غزة لم يأت من مجرد رغبة القيادة الإسرائيلية بالانتقام، ولا هو تعبير عن النوازع الإجرامية الدموية لنتنياهو وأعضاء حكومته المغرقين في التطرف والوحشية، بل هو نبع، بالإضافة إلى ذلك كله، من شعور المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة كلها (حكومة ومعارضة) بخطورة سقوط مرتبة إسرائيل ووظيفتها ضمن مشروع السيطرة الغربية على المنطقة. لذلك وجدنا جناحي المؤسسة يلتحمان على الفور ويقومان بتوسيع الحكومة وتشكيل مجلس حربي يضم الفريقين معاً، رغم كل ما بينهما من خلافات، ليقودا الهجوم التدميري المذهل على قطاع غزة تحت شعار النصر المطلق (القضاء على «حماس» وتجريد القطاع من السلاح واستعادة المخطوفين).
وقد عبّر وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بشكل بالغ الصراحة وبالغ الدلالة عن أهمية هذا «النصر المطلق» بالقول: «ما لم نحقق هذا النصر فلن يكون بمقدورنا العيش في منطقة الشرق الأوسط»!

ما هي المعاني الحقيقية لهذا التصريح؟
1-إن اللحمة الحقيقية للمجموعات العرقية المتعددة التي جمعها الكيان الصهيوني من شتى أرجاء الأرض، ليست الديانة اليهودية ولا العقيدة الصهيونية بقدر ما هي تفوق القوة والثروة. وقد كانت عبارة المرحوم حسنين هيكل بالغة الدلالة عندما قال إن الأمة العربية قادرة على تحمّل العديد من الهزائم، بينما لا تتحمل إسرائيل هزيمة واحدة! ومثلها مقولة «إن إسرائيل عبارة عن جيش لديه دولة وليست دولة لديها جيش»!
2- إن هزيمة بحجم ما جرى في السابع من تشرين الأول ستشكل زلزالاً كيانياً لدولة إسرائيل سيترتب عليه فقدان ثقة واسع المساحة يدفع بقطاعات وازنة من مواطنيها إلى الهجرة باتجاه البلدان التي لا يزالون يحملون جنسياتها وهم الأكثرية الساحقة من سكانها. بينما يتردّد من كان من يهود الشتات يفكر بالهجرة إلى «أرض الميعاد» عشرات المرات قبل أن يقدم على تنفيذ ما كان يفكر فيه.
3- مضافاً إلى ذلك ما لحق بالوضع الاقتصادي من خسائر فادحة سوف تترك آثاراً اقتصادية واجتماعية غير قابلة للشفاء على مدى سنوات قادمة.
4- هذا على الصعيد الإسرائيلي، أمّا على الصعيد الفلسطيني، فسوف يجدد هذا «الطوفان» ثقة الشعب الفلسطيني بقدراته وتعلقه بطريق المقاومة وتطلعه إلى تحقيق الانتصار، بعد أن كان الكثير من اليأس قد تسرّب إلى بعض صفوفه نتيجة فشل مشروع الدولة الذي مثلته السلطة الفلسطينية وتضخم حجم الخذلان الذي أصابه من الرهان على عالمه العربي دولاً وشعوباً (مع الأسف).
5- حتى الأنظمة العربية التي استُجرت إلى التطبيع بتأثير ما هي واقعة تحته من نفوذ وضغوط خارجية وما شكّله لها الكيان الإسرائيلي من تهديد وحماية في آن واحد، ستهتز علاقتها بهذا الكيان الذي بدا كأنه بعبع من كرتون في مواجهة انتفاضة غزة!
كل ذلك، مضافاً إلى سقوط مرتبة إسرائيل ووظيفتها في السلم الاستراتيجي الغربي الذي أشرنا إليه في ما تقدّم، أشعر قادة الكيان فعلاً أن مصير كيانهم بات مهدداً، على الأقل بالنسبة إلى المكانة التي كان قد قطع شوطاً كبيراً على طريق قمتها ألا وهي التسيّد على المنطقة كلها بكل ما فيها من دول وكيانات وثروات ومغانم!
انطلاقاً من إدراك قادة الكيان لهذه الحقائق (التي عبّر عنها تصريح وزير الدفاع) كان قرار الحرب التدميرية على غزة بهدف تحقيق ما أطلقوا عليه صفة «النصر المطلق»، على أمل استعادة الهيبة والسطوة اللتين دمّرهما «الطوفان» لاسترداد الثقة الكيانية الداخلية والمهابة الإقليمية والتوكيل الخارجي من أجل تصفية آثار «الطوفان»!
ربما كان من المحتمل أن تحقق هذه الحرب التدميرية، بكل ما مورس فيها من وحشية قلبت مفاهيم العالم كله بشكل لم يكن متوقعاً على الإطلاق، لو أنها أنجزت ذلك «النصر المطلق» خلال ساعات أو أيام قلائل. أمّا أن ينقضي ما يزيد على الخمسة أشهر من هذه المجازر التدميرية التي لا يتذكر العالم أنه شهد ما يشبهها في كل ما مر عليه من حروب، وعلى مرأى من البشرية كلها، دون أن يتحقق من هذا «النصر المطلق» أي شيء، رغم كل ما ارتكب فيها من تدمير ومجازر، وأن يحقق مقاتلو المقاومة الفلسطينية إعجاز الثبات في هذه المواجهة والنيل الكبير من قوة ذلك الجيش الذي لا يُقهر وتمريغ أنفه وترسانته في وحول قطاع غزة... فقد بات حلم «النصر المطلق» كابوساً بعيد المنال مهما كانت النتائج التي يمكن أن تنتهي إليها هذه الحرب.
وقد بدأ كثيرون من الكتّاب والقادة الأمنيين الإسرائيليين أنفسهم يعبّرون عن هذه الحقيقة:
يقول الكاتب رون بيرغمان (مؤلف أحد أهم الكتب عن تاريخ الموساد «انتصب واقتل أولاً») في مقال نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» بتاريخ 28/2/2024: «الجيش عالق في غزة والمخطوفون يذوون والجمهور الإسرائيلي مغرق بمعلومات زائفة وكاذبة». أمّا جنرالا الاحتياط عاموس يادلين (الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات) وعودي أفيتال (الرئيس السابق لوحدة التخطيط الاستراتيجي في وزارة الأمن) فيقولان في تحليل مشترك: «بعد خمسة أشهر من القتال في غزة يبدو من الواضح أن إبادة "حماس" ستحتاج إلى أعوام، أمّا النصر المطلق فهو شعار فارغ ومضلّل» (1/3/2024).
لقد أصبح بالإمكان القول إن «طوفان الأقصى» وما تلاه قد حقّقا إعجاز التغيير الجذري في معطيات المنطقة، وقلبا مسارها رأساً على عقب، فما سيكون بعد هذا «الطوفان» لن يكون أبداً كما كان قبلها. لقد بدأت هذه النتائج تنقلب على الأوضاع الداخلية الإسرائيلية. ولعل أبرز ما ظهر منها حتى الآن هو في الأوساط العسكرية حيث بدأ وزير الدفاع يعلن صراحة عن حاجة الجيش إلى حملة تجنيد جديدة وسريعة على صعيدي الضباط والجنود، كما أنه طرح على العلن رأيه بضرورة تغيير قواعد الخدمة العسكرية بزيادة مدتها وإلغاء استثناء اليهود الحريديين منها بحجة تفرغهم لدراسة التوراة، الأمر الذي يرفضه الوزراء المتطرفون، وقد يؤدي إلى تفجير التحالف الحكومي الحالي.
هذا بالإضافة إلى تصعيد الحملة الشعبية لأهالي المخطوفين واستئناف التظاهرات المعارضة للانقلاب الدستوري الذي كانت تنفذه هذه الحكومة قبل «طوفان الأقصى» واندماج هذه التظاهرات بعضها مع بعض، ورفعها لشعار الانتخابات المبكرة للتخلص من نتنياهو وحكومته، بكل ما يعكسه ذلك من انشقاقات في لحمة هذا الكيان!
كما أنه لا يمكن تجاهل التغيير الانقلابي الجذري في رؤية العالم لإسرائيل ومواقفه منها ومما ترتكبه من مجازر في فلسطين. يكفي نموذجاً من هذا التغيير ما قام به الضابط الأميركي الطيار أرون بوشنيل الذي أحرق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن احتجاجاً على عمليات الإبادة الجماعية في غزة ليواجه الموت وهو يهتف «فلسطين حرة»! وما من شك في أن ثمة دلالة بالغة الأهمية لتصريح وزير الدفاع الأميركي نفسه الذي أدلى به في التاسع والعشرين من شباط الماضي خلال جلسة استماع في الكونغرس حين قال: «لقد قتلت إسرائيل أكثر من خمسة وعشرين ألف امرأة وطفل في غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي». طبعاً من دون إغفال التظاهرات الحاشدة أسبوعياً في معظم دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة استنكاراً للمجازر التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، ودعماً للشعب الفلسطيني وقضيته.
ولعل الصورة الأهم في كل ما يتعلق بتغيّر الموقف الدولي من موضوع الصراع العربي-الإسرائيلي كله، والأغنى دلالة، هي مثول إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وهي التي كانت منذ نشوئها فوق كل القوانين والمحاكم والمراجع الدولية.
نعم، ما سيكون بعد «طوفان الأقصى» لن يكون أبداً كما كان قبله. وزبدة الكلام في هذا الشأن هي ما أعلنه وزير الدفاع يوآف غالانت: «لن نستطيع العيش بعد الآن في الشرق الأوسط»!

* كاتب سوري