إنّ الاحتجاجات الطالبية في عشرات الجامعات الأميركية، المنددة بالإبادة الجماعية التي يرتكبها العدوان الإسرائيلي على غزة، والرافضة للدعم الأميركي لإسرائيل، والمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، تكشف عن قضايا معبّرة، تستدعي النظر فيها وإن بصورة أوّلية:1- عبّرت الاحتجاجات عن خروج الطلاب المحتجين على إستراتيجية الإلهاء. وهي تسمية أطلقها المفكر الأميركي نعوم تشومسكي، على نهج المنظومة الإعلامية الأميركية، في إلهاء جيل الشباب بقضايا تفصيلية وظرفية وعابرة، إذ تتركز، على نحو رئيسي، على التمتع الاستهلاكي لتحويل الشاب الأميركي إلى كائن استهلاكي، حسب ما طرحه في وقت سابق هربرت ماركوز. أي إن المنظومة اجتهدت بشكل حثيث لحرف أنظار الشباب عن القضايا الكبرى التي تتمثّل في الحقائق الوطنية والسياسية والثقافية في بلادهم، وفي حقائق مجريات الصراعات السياسية والوطنية -التحررية في خارجها. ٢- إن التَتْفيه الذي تحدّث عنه آلان دونو في كتابه «نظام التفاهة»، وطال مستويات المجتمعي كلها، قد يصيب نجاحاً بفعل هيمنة ثقافة التسطيح الفارغ، أو باللغة العامية ثقافة «الفافوش»! التي يهيمن فيها الشكل على المضمون، والثانوي على الرئيسي، والهامشي على الأساسي، والظرفي على البنيوي... لكن نجاحه لا يجد نصيبه العملي لدى من يطرح جانباً اللامبالاة ويأخذ بثقافة الجدّية والالتزام في النظر إلى القضايا العامة. وهذا ما أخذ به طلاب أميركا في احتجاجهم الداعي إلى وقف استثمارات الجامعات التي تخدم إسرائيل، والمطالب بفلسطين حرة، والرافض لحرب الإبادة على غزة. أو بلغة أخرى: إنّ طلاب أميركا قدّموا، من جهتهم، مثالاً ساطعاً يحيل إلى تقويض مقولة التتفيه في بلادهم التي تعتبر أكبر منتج ومتلقٍّ للأفكار الجديدة في العالم. ٣- ‏وبعد أن نقض طلاب أميركا المحتجون إستراتيجية الإلهاء، وقوّضوا مقولة التتفيه، حملوا مدونة من القضايا الكبرى وفي مقدّمتها: الحقوق المدنية الفردية والجماعية من مثل الحق في كل من حرية التظاهر والتجمع والإضراب وحرية التعبير وحرية الفكر وحرية الضمير، ورفض التمييز العرقي أو الجنسي أو الديني وحفظ كرامة الإنسان... ثم نظروا عبرها في الصور الواقعية عن مجريات الحرب الإسرائيلية على غزة. فكان أن رفضوا سياسة هذه المجريات بخاصة سياسة الإبادة الجماعية. وهو ما جعل رفضهم السياسي يحمل سمَتي العقلنة والأنسنة، ‏أي إنهم رفضوا أن تتعرى السياسة أياً تكن تعبيراتها من هاتين السمَتين لئلا ‏تقع في تعبيرات الوحشية والبربرية كما هي عليه الحال في حرب إسرائيل على القطاع. هنا يكون موقف الطلاب قد كشف عن الخبيء في دعم نظامهم لإسرائيل. وهو أن هذا النظام حوّل قضية الحقوق المدنية، التي يدعو إلى تعميمها في العالم، إلى ركام يخفي المقابر الجماعية الممتلئة بأطفال غزة ونسائها.
٤- إنّ تظهير الطلاب بُعدَي العقلانية والإنسانية في موقفهم السياسي، جعل حراكهم الاجتماعي ‏على سعة وشمول غير مسبوقين في أميركا، ‏إذ شارك فيه، عدا عن الطلاب الأميركيين، طلاب يهود وآخرون من جنسيات مختلفة. والجدير ذكره هنا أنه حينما شرع النظام الأميركي في التضييق بالقمع على الطلاب واعتقالهم، ‏أصاب في الصميم ما يسوقه إلى الخارج من عقلانية وإنسانية (أخلاقية)، طالما أن الأمر يتعلق بدعمه لإسرائيل. لذا جاء عنف عقلانيته وتهشيم إنسانيته يناقضان بُعدي العقلانية والإنسانية للموقف السياسي للحراك الطالبي من حرب الكيان على غزة.
‏إنّ إصابة النظام الأميركي هذه، عكست، بقدر أو بآخر، تفارقه التناقضي بين دعوته النظرية إلى الحقوق المدنية، وبين تطبيقه العملي لها، سواء في الخارج أم في الداخل الأميركي بالذات. والتفارق هنا يندرج في دينامية متبدّلة، لكنها تحيل دائماً إلى خدمة مصالح النظام السياسية والرأسمالية على غير صعيد.
٥- وبالتوازي مع عنفه الموسوم بالعقلانية، ‏اتهم النظام الأميركي ومنظومته الإعلامية الطلاب المحتجين بمعاداة السامية. وهي في معناها الشائع تحيل إلى معاداة اليهود، مع العلم أن هناك عدداً كبيراً من الطلاب اليهود في صفوف الحراك، إذ لا يعقل أن يعادي هؤلاء أنفسهم، فضلاً عن أن الآخرين أفصحوا على نحو صريح أنهم يرفضون هذه التهمة أياً يكن مبعثها أو مصدرها، ويرون أن المراد منها هو صرف الأنظار عن الإبادة الجماعية في غزة.
‏ومع تواصل الحراك الاحتجاجي، ربما أخذ يتضح لطلابه المعنى الحقيقي لتهمة معاداة السامية وهو المعنى الذي يتمثل في أن هذه التهمة تطلق على كل من يقف ضد مصالح الأنظمة الرأسمالية الغربية وعلى رأسها النظام الرأسمالي الأميركي. ‏ولعل ذلك ‏قد يدفع الطلاب إلى المساهمة في تغيير ثقافي يرجّ الرؤى الجاهزة، ويترك تأثيره على الثقافة الأميركية العامة. وربما على اختمار قد يكون مديداً لجهة تحول سياسي في بلاد العم سام.
٦- وفي هذا المساق، ربّ ناظر يرى أن فئة الشباب تشكّل فاعلاً تاريخياً في عملية التغيير، ‏ولها أن تتقدّم في هذا الصدد على طبقة العمّال وفئات المهمّشين، ‏أو قد تغيّب الفعل التغييري لهذه أو تلك، أو في أحسن الأحوال قد تجعل هذا الفعل فاقداً وزنه التأثيري إلى حد بعيد... لكن ما رآه الناظر هنا، أنه اختزل التغيير من حيث كونه عملية معقدة ومركبة، ‏بدور فئة مجتمعية واحدة هي فئة الشباب. ولئن كان دور هذه الفئة فاعلاً في ظرف تاريخي معين، إلا أنها لا تستطيع بمفردها وبفعل تركيبتها غير المتجانسة، أن تحقق التغيير المجتمعي الشامل. ذلك أن هذا التغيير يتطلّب، داخلياً وخارجياً، توفير شروط مجتمعية وتاريخية مخصوصة، تتيح استيلاد كتلة تاريخية متشكلة من طبقات وفئات عريضة، إذ يمكن للكتلة أن تفرض أرجحيتها في توازن القوى في داخل المجتمع، لكي ينفتح الأفق على التغيير المنشود.
‏منذ نشأتها، تلازم وجهان للحداثة الغربية، العقلانية والعنف، أو العقلانية العنفية والعنف العقلاني. ويبدو أن هذين الوجهين ما زالا حاضرين إلى اليوم في ثقافة الغرب السياسي. ومن ينظر في القمع الذي يتعرض له طلاب أميركيون وطلاب أوروبيون، يجد أن العقلانية العنفية ما زالت قارّة في الوجه الأول. ومن يتفحص مشاهد دعم الغرب السياسي لإسرائيل يقع في الوجه الثاني على طبيعة العنف العقلاني ضد الفلسطيني.
‏وإذا ما تفحص الناظر أكثر في مشاهد دعم إسرائيل، يرتسم أمامه أوجه حكام غربيين وقد تلونت بغبرة الحروب الصليبية.

* باحث في علم الاجتماع المعرفي.