انحياز الإعلام الغربي المهيمن للسردية الصهيونية بات من المسلّمات. قد يبدو هذا الكلام مكروراً، غير أنّه في كلّ مرّة ترتكب فيها إسرائيل جريمة جديدة، تتداعى الميديا الأجنبية للدفاع عنها وتلميع صورتها. وها هي تتفوّق على نفسها منذ بدء عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، وخصوصاً مع تعاظم هستيريا قوات الاحتلال الممعنة في ارتكاب المجازر في حقّ المدنيين. ورقة التوت سقطت، ولا سيّما عن الجهات الإعلامية التي لطالما «أستَذَت» بشعارات الموضوعية والمهنية والدقّة وحرية التعبير. من التضليل وتبنّي الروايات الكاذبة والترويج لأخبار تمهّد للإبادة الإسرائيلية بحقّ أهل غزة، إلى طريقة اختيار المصطلحات، وصولاً إلى إرهاب العاملين المؤيدين لفلسطين وغيرها من الممارسات التي تظهر هذا الإعلام على حقيقته: هو لا يعدو كونه سلاحاً في خدمة المصالح الاستعمارية لحكوماته. الأمثلة كثيرة طبعاً، لعلّ أبرزها يتمثّل في «هيئة الإذاعة البريطانية».

مع بدء الحرب الإسرائيلية الحالية على غزّة، نشرت صحيفة «ذا تلغراف» البريطانية تقريراً حول أداء ستّة من صحافيي «bbc عربي» تجاه ما يجري، كاشفةً أنّ القناة «تُجري تحقيقاً عاجلاً، بعدما رصدت نشاط مجموعة من موظفيها في الشرق الأوسط الذين احتفوا على صفحاتهم بهجوم «حماس» الذي خلّف نحو 1300 قتيل إسرائيلي»، على حدّ تعبيرها.
المؤسسة البريطانية «العريقة» التي اعتبرت أنّ الناس في غزّة «يموتون» بينما «يُقتلون» في الأراضي المحتلة، نشرت قبل يوم واحد من قصف «مستشفى المعمداني» تقريراً تساءلت فيه: «هل تبني حماس الأنفاق تحت المستشفيات والمدارس؟»، مقدّمةً ذريعة لقوّات الاحتلال لارتكاب مذابحها المتنقّلة حين رجّحت أنّ شبكة الأنفاق تتدفّق تحت أحياء مكتظة بالمنازل والمستشفيات والمدارس. وواجهت الشبكة غضباً واسعاً حين وصفت التظاهرات التضامنية مع فلسطين في بريطانيا بأنّها «مناصرة لحماس»، فيما أشارت إلى أنّ سقوط أكثر من 400 ضحية بين شهيد وجريح في جباليا كان نتيجة «انفجار ضخم» في المخيّم من دون الإشارة إلى مسؤولية قوّات الاحتلال.
احتجاجاً على السياسة التحريرية تجاه ما يحصل في غزّة وأداء BBC المنحاز إلى الكيان العبري، شهدت أروقتها استقالة صحافيَيْن، أحدهما اللبناني إبراهيم شمص، فيما تواجه «هيئة الإذاعة البريطانية» اتهامات من موظفيها بالتساهل الشديد مع إسرائيل و«تجريد» المدنيين الفلسطينيين من إنسانيتهم، في تغطيتها للعدوان الإسرائيلي على القطاع المحاصر. أمر دفع بكثيرين إلى أخذ إجازات من العمل أو حتى البكاء في المكاتب، وفق «ذا تايمز». كما نُقل عن مصدر قوله إنّ «الموظفين كانوا يبكون في المراحيض. أمّا المتعاونون فقد ضحّوا بأرباحهم بسبب تجنّبهم الحضور إلى العمل. الكثير من الناس في حالةٍ متردّية».
تلقّى مدير عام الشبكة تيم ديفي رسالة إلكترونية من مراسلها في بيروت تفنّد أداءها المنحاز لإسرائيل


أثيرت المخاوف من قبل كبار المحررين في اجتماع عُقد في نهاية شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، فيما تلقّى المدير العام تيم ديفي رسالة عبر البريد الإلكتروني محورها أنّ الشبكة «تعامل حياة الإسرائيليين على أنّها أفضل من حياة الفلسطينيين».
«ذا تايمز» و«ذا تلغراف» وغيرهما من المؤسسات الإعلامية الأجنبية، سلّطت الضوء على حالة من التململ التي تبرز بوضوح في أرجاء «بي بي سي» وقد تجلّت في نصّ الرسالة المذكورة المنسوبة إلى مراسلها في بيروت رامي رحيّم ويعود تاريخها إلى 24 تشرين الأوّل. تناقلت مواقع إخبارية عدّة مضمون الـ «إيميل» الذي أكّد فيه رحيّم أنّه يفكّر في «أسوأ المخاوف الممكنة»، متهماً المؤسسة بتقدير حياة الإسرائيليين أكثر من الفلسطينيين. وأشار إلى استخدام الشبكة كلمات «مثل مذبحة ومجزرة وفظائع للإشارة إلى تصرّفات «حماس»، ولكنّها نادراً ما تستخدمها للإشارة إلى أفعال إسرائيل»، متسائلاً: «ألا يثير هذا مسألة التواطؤ المحتمل لـ «هيئة الإذاعة البريطانية» في التحريض والتجريد من الإنسانية والدعاية للحرب؟». ولفت رحيّم إلى «تساهل» صحافيي «بي بي سي» في كثير من الأحيان مع المسؤولين الإسرائيليين في المقابلات، ومنحهم «وقتاً كافياً» لتبرير أفعالهم، داعياً في الوقت نفسه إلى «تمثيل دقيق ومتوازن وعادل وصادق» للأحداث التي سبقت الحرب. وأتت الرسالة أيضاً على ذكر تجنّب bbc الإشارة إلى «اللغة اللاإنسانية» التي يستخدمها المسؤولون الإسرائيليون الذين يصفون المدنيين الفلسطينيين بـ «الحيوانات»: «لقد أخذت bbc على عاتقها في السنوات الأخيرة مهمة مكافحة الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة وخطاب الكراهية وأشياء من هذا القبيل، وهو اتجاه سائد في وسائل الإعلام الغربية... أين المحتوى المتعلّق بتحليل طوفان التحريض ضد الفلسطينيين وتتبع آثاره؟». وخلص النص إلى أنّه يبدو أنّ «بي بي سي» تعمد إلى إخفاء «الكثير من المعلومات المهمة وذات الصلة، بما في ذلك الأدلة الشاملة وآراء الخبراء والسياق التاريخي عن الجمهور.

نقل عن مصدر قوله إنّ «موظفي bbc كانوا يبكون في المراحيض» بسبب تغطيتها

لا يمكن للجمهور تكوين رأي مستنير أو فهم أساسي للأحداث الجارية من دون الوصول إلى هذه المعلومات» ومعرفة الخلفية التاريخية للأحداث الجارية في فلسطين، وما الذي مهّد مثلاً لعملية السابع من أكتوبر. وأردف: «ويبدو أيضاً أنّها قد تعمل على تعزيز الدعاية الإسرائيلية التي تهدف إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم... هناك الكثير مما يمكن قوله، لكن هذه هي العناوين الرئيسية. الأمر لا يتعلّق بأخطاء هنا وهناك، أو حتى بالتحيّز الممنهج لمصلحة إسرائيل. السؤال الآن هو سؤال التواطؤ. ومن المصلحة العامة تصحيح هذا الأمر بأقصى سرعة». وفي الوقت الذي تتجه فيه الأنظار نحو مراكز القرارات التحريرية في «بي بي سي»، نقلت «ذا تايمز» أنباءً تفيد بأنّ رؤساء الأخبار يمارسون ضغوطاً لضمان عرض اللحظات «المؤلمة» من حياة الناس في غزة، مع تسليط الضوء على تقارير مراسل «بي بي سي» في غزّة رشدي أبو العوف وبرنامج «بانوراما في الحرب».