للمرّة الأولى، تبادر تركيا إلى اتّخاذ خطوة عملية كاملة تجاه استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. ورغم الاحتجاجات والنداءات المتكرّرة لزعماء الأحزاب، على مدى الأشهر الماضية، لوقف التجارة مع إسرائيل، كانت حكومة رجب طيب إردوغان أمام ارتباك واضح؛ فتارةً تقول إن الصادرات تذهب إلى فلسطين وليس إلى إسرائيل، وتارة أخرى تنفي وجود تجارة بين الجانبَين، فيما يدافع نائب رئيس الحزب، نهاد زيبقتشي، في أن بلاده تدين العدوان الإسرائيلي، «لكن الإدانة شيء، والتجارة شيء آخر». وكانت تركيا قد أقدمت، في التاسع من نيسان الماضي، على خطوة في هذا الاتجاه، منعت بموجبها تصدير 54 منتجاً إلى إسرائيل، لكنها بادرت إلى خطوة أكثر جذرية هذه المرّة عندما قرّرت وقف التجارة تماماً مع تل أبيب، وفقاً لما جاء في بيان لوزارة التجارة قبل أيام. وفي لقاء لاحق مع «جمعية الصناعيين ورجال الأعمال المستقلّين» الإسلامية الموالية لـ«حزب العدالة والتنمية»، قال إردوغان: «أريد أن أكون واضحاً. نحن لا نريد عداوةً ولا نزاعاً مع أيّ بلد في المنطقة. وفي كلّ مناسبة، أكرّر أنّنا لا نريد في جغرافيتنا صدامات ودموعاً ودماء»، مضيفاً: «هدفنا من وراء قطع التجارة، هو الضغط على نتنياهو الذي خرج عن السيطرة بفضل الدعم العسكري والديبلوماسي الغربي». وفي أعقاب اجتماع الحكومة، أول من أمس، رحّب الرئيس التركي بقرار حركة «حماس» قبول اتفاق تبادل الأسرى، لافتاً إلى أن ذلك حصل «نتيجة نصائحنا. والآن، على الطرف الإسرائيلي أن يقبل الاتفاق وأن يمارس الغرب ضغوطه عليه». وعلى أي حال، يمكن ملاحظة ما يلي في الإجراء التركي الأخير:1- جاء هذا الإجراء، رغم كونه مطلوباً، متأخّراً جدّاً، فيما لا يمكنه أن يلغي دور تركيا المشارك مباشرة في تقديم الدعم لإسرائيل على امتداد أشهر الحرب (ظلّ مستوى التصدير إلى دولة الاحتلال في مدة العدوان المتواصل، هو نفسه الذي كان عليه قبل الحرب).
2- في الثامن من نيسان الماضي، صدر قرار بتقليص تصدير المنتجات إلى إسرائيل لتشمل 54 منتجاً. ومع ذلك، فإن وسائل الإعلام التركية كانت تتحدّث عن استمرار الصادرات عبر موانئ ودول ثالثة.
ربطت وزارة التجارة التركية العودة عن القرار الجديد بالسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى غزة


3- إن واحداً من أهمّ الواردات الإسرائيلية هو النفط الآتي من آذربيجان، والذي يتمّ تصديره بصورة رئيسية عبر شركات تركية موالية لـ«حزب العدالة والتنمية» بل وتابعة لعائلة الرئيس التركي، إلى موانئ الإسكندرون وجيهان ومرسين، ومنها إلى إسرائيل؛ لكن هذه التجارة الوسيطة لا يشملها بيان وقف التجارة مع الأخيرة.
4- ربطت وزارة التجارة العودة عن القرار الجديد بالسماح - من دون انقطاع وبصورة كافية - بوصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، فيما لم يشترط البيان الجديد للعودة عن القرار، وقفاً نهائيّاً للحرب، وهو الأمر الذي استدركه إردوغان في لقائه لاحقاً مع «جمعية الصناعيين ورجال الأعمال المستقلّين».
5- إن توقيت قرار قطع التجارة متّصل باعتبارات متعدّدة يأتي في مقدّمتها العامل المحلّي؛ فتقليص التجارة، في 9 نيسان، جاء بعد أسبوع واحد فقط من الانتخابات البلدية التي جرت في الـ31 من آذار، وبعدما تلقّى «العدالة والتنمية» وإردوغان تحديداً هزيمة مدوية هي الأولى من نوعها في تاريخه منذ وصوله إلى السلطة عام 2002. وفي اجتماع مغلق للجنة المركزية لـ«حزب العدالة والتنمية» بعد تعرّضه للهزيمة، تعهد إردوغان بالتحقيق في أسباب الهزيمة والعمل على معالجة الثغرات. والأهم في تحليل أسباب الفشل، أن قسماً من الفئات المتدينة من قواعد الحزب ومن غير قواعده، انفضّت عن تأييده وصبّت أصواتها لـ«حزب الرفاه من جديد» بزعامة فاتح إربكان، ابن نجم الدين إربكان، الذي نال حوالى 7% ليحتلّ المرتبة الثالثة في الانتخابات، ولينقل عن لسان إردوغان أن «غزة هزمتنا».
6- تصاعُد الاحتجاجات العالمية في شوارع الغرب وأخيراً في الجامعات الأميركية، أحرج إردوغان كثيراً أمام الرأي العام التركي، فكانت المسارعة إلى الخطوة الأخيرة.