رام الله | يَختصر الإعلان المقتضب للحكومة الفلسطينية الجديدة في شأن صرف رواتب موظّفيها، واقع السلطة وعجزها، وفقدانها أيّ أدوات فعل على الأرض. فالحكومة التي ولدت برغبة أميركية وأوروبية وخليجية، وجرى الترويج لها باعتبارها المنقذ من الوضع الاقتصادي المتردّي، جلست إلى طاولتها المستديرة لتقول للموظفين الذين دخلوا في دوامة الفقر منذ أشهر: «إلى حين الإفراج عن بعض الأموال المحتجزة، ووصول أيّ مبالغ من المساعدات الخارجية المتوقّعة، فإن الحكومة ستصرف رواتب الموظفين العموميين عن شهر آذار المنصرم وفقاً لنسبة تراعي الموظفين ذوي الرواتب المتدنية والمتوسطة، حيث ستقوم وزارة المالية بتحديد نسبة وموعد صرف الرواتب فور تسلّم المقاصة». ودافعت تلك الحكومة عن موقفها بأن سلطات الاحتلال تحتجز حوالى 6 مليارات شيكل (1.6 مليار دولار)، وذلك بعدما زادت من الاقتطاعات الشهرية من المقاصة التي انخفضت بنسبة 60%، إلى جانب تراجع الإيرادات العامة بفعل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.وتسلّمت حكومة محمد مصطفى مهامّها بدلاً من حكومة محمد اشتية، بدَين إجمالي فاق الـ11 مليار دولار، منها حوالى 6 رواتب مستحقَّة للموظفين لم تُصرف إلى الآن، فيما لا يبدو أن هناك مَن يعلم متى أو كيف ستُصرف، أو بأيّ نسبة، إذ تنتظر الحكومة موافقة إسرائيل على تحويل أموال المقاصة، بعد اقتطاع ما تشاء منها، أو ما يصلها من مساعدات خارجية يتندَّر الفلسطينيون عليها ويسمّونها «شحدة». ويقابل الموظّفون، مواقف الحكومة بسخرية سوداء، إذ يَرَون أنه لا خطط للخروج من هذا الوضع الاقتصادي المرير القائم على ما تقرّره إسرائيل، وما تجود به الدول العربية والغربية، والتي لا تصرف دولاراً واحداً إلا بإذن واشنطن.
ولا يختلف الشأن السياسي عن الحالة الاقتصادية؛ فالسلطة الفلسطينية لا تزال تنتظر ما ستسفر عنه الحرب، لمعرفة حجم المكاسب التي ستحقّقها لنفسها، أو ما ستسمح به واشنطن لها. والجدير ذكره، هنا، أن تشكيل الحكومة الجديدة مثّل أحد الشروط الأميركية والخليجية لإحداث إصلاح في السلطة، وهو ما استجاب له الرئيس محمود عباس سريعاً، وحرص على تكليف محمد مصطفى بموازاة إقناع الأطراف به، علماً أنه يُعرف بقربه من السعودية. وأرفق عباس تشكيل الحكومة، بجملة تعيينات في قيادة المحافظات وبعض الهيئات والمؤسسات، كسلطة النقد والقضاء والسلك الديبلوماسي، غير أن ذلك لم يكن كافياً بالنسبة إلى واشنطن، التي طرحت تغيير النظام السياسي برمّته، وفقاً لما عبّر عنه الأميركيون في أكثر من مناسبة.
تخشى قيادة السلطة الإفراج عن مروان البرغوثي، والذي من شأنه أن يُعيد خلط الأوراق مجدداً


والواقع أن ذلك المطلب كان مدار بحث خلال اللقاء السداسي العربي ضمن المنتدى الاقتصادي الذي عُقد في السعودية أخيراً، وهو دفع عباس والمقرّبين منه إلى رفض لقاء وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في الرياض، أو في رام الله. لكنّ اللقاء المذكور استُغلّ من أجل إيصال رسالة إلى الأميركيين والدول المشاركة، تمسّ أمراً في غاية الأهمية يتمثّل في «أمن إسرائيل»، لعلّ المعنيين يكفّون عن «نغمة الإصلاحات». وإذا كان تصريح عباس في المنتدى، حين قال إن «لإسرائيل الحقّ في الحصول على الأمن الكامل وهذا واجبنا، ونحن حقّنا كفلسطينيين الحصول على تقرير المصير على دولة مستقلّة أسوة بباقي شعوب العالم»، غريباً في ظلّ حرب الإبادة التي تُرتكب في غزة والضفة الغربية، فإنه يأتي في سياق تأكيد الوظيفة التي ارتضتها السلطة لنفسها منذ بدء العدوان، والمتمثّلة في السيطرة على الضفة واحتواء حالة المقاومة المتصاعدة فيها.
وإذ تندرج المطالب الأميركية من السلطة في إطار الهندسة المأمولة للمنطقة، والقائمة على التطبيع الإقليمي والعربي مع إسرائيل، فقد صبّت زيارات بلينكن وغيره من المسؤولين السياسيين والأمنيين إلى رام الله، في الأشهر الماضية، في سياقها. وفي الاتجاه نفسه أيضاً، كشفت مصادر عبرية أن وفداً أميركيّاً سيزور المدينة قريباً لبحث القضايا الأمنية والسياسية مع كبار المسؤولين الفلسطينيين، ومناقشة مدى جاهزية السلطة لإدارة المعابر في قطاع غزة. ويأتي هذا فيما تنتظر السلطة، بفارغ الصبر، اليوم التالي للحرب، آملةً عودتها إلى القطاع، وهو ما دعا إليه أمين سرّ تنفيذية «منظمة التحرير»، حسين الشيخ، قبل أيام، بعد ترحيبه بموافقة حركة «حماس» على مقترح صفقة التبادل.
مع ذلك، تخشى قيادة السلطة حدوث تغييرات دراماتيكية في نتائج الحرب، ومنها الإفراج عن مروان البرغوثي، والذي من شأنه أن يُعيد خلط الأوراق مجدداً. وفي هذا السياق، كشف موقع «ميدل إيست آي» البريطاني عن طلب مسؤولين كبار في السلطة من إسرائيل والولايات المتحدة استبعاد القيادي في حركة «فتح»، البرغوثي، من أيّ صفقة تبادل محتملة، لأن من شأن إطلاقه أن يهدّد قيادة عباس، مشيراً إلى أن واشنطن وافقت على إزالة الاسم من أيّ قوائم محتملة يتوقّع أن تقدّمها «حماس». وفي المقابل نقلت وكالة الأنباء الرسمية، «وفا»، عن «مصدر فلسطيني سيادي كبير»، قوله إن «ما يتمّ الترويج له حول تقديم طلب من شخصيات قيادية رسمية إلى دولة الاحتلال بعدم إطلاق سراح الأخ القائد مروان البرغوثي لا أساس له إطلاقاً، هذا الخبر مجرّد فبركات واهية وشعوذة من بعض وسائل الإعلام المشبوهة».