يواصل المخرج اللبناني يحيى جابر تنقيبه في البيئة اللبنانية. مرةً تستهويه أحوال المهمّشين القاطنين في الجرود (هيكالو)، أو أحياء المدن (بيروت، الطريق الجديدة)، أو القرى الجنوبية كما في «مجدرة حمرا» التي عُرضت أمس في «مونو». يدخلنا برفقة بطلة المونودراما، أنجو ريحان، إلى سياقات متعددة في منطقة جنوب لبنان، بوصفه فضاءً شائكاً، شهد تحولات كبرى، ومتغيرات سياسية وسوسيولوجية واقتصادية، رسمت حياة النساء في هذه المنطقة. أول ما يمكن ملاحظته هو أداء أنجو ريحان. ممثلة مرنة، وفكاهية، وخفيفة الظل، ومبدعة ذات مهارات وتقنيات عالية في تطويع صوتها، وجسدها، وإحساسها الدفين، وإظهاره إلى العلن. أدخلتنا في حياة ثلاث نساء من الجنوب: مريم التي كانت تعيش في باريس والضاحية، هي امرأة جامحة، متحررة، هدمت اليقينيات، تكتب عن جنوب لبنان، تزوجت من عالم نووي، جنوبي من النبطية، طلّقته، وتحاول استرجاع ذكرياتها مع حبيبها الأول، الذي يعرض عليها «زواج المتعة» وترفضه. تجتمع في بيتها مع «فطم»، الأرملة، التي فقدت زوجها في حرب تموز، ربّت أولادها من «محل بيع الستائر» الذي ورثته، وتحاول اليوم الزواج من رجل آخر. تنضم «سعاد» إلى لقائهما، شخصية هشّة، ضعيفة، معنّفة، مقهورة، ومستضعفة. الشخصيات الثلاث اتخذت من الكنبة فضاءً لها. تنقلت أنجو ريحان بين عوالم الشخصيات، بسلاسة، وصدق، وعفوية، وارتجالات تنمُّ عن قدرة عالية على اللعب المسرحي والتفاعل مع الجمهور. صحبتنا أنجو، في سردها إلى الجنوب، بكل ما يحمله من طقوس، وروائح، وملذّات، ورغبات، وإخفاقات، ورعب، وعنف، وحروب.
كان المخرج على صواب في تكريس الأدوات على المسرح لخدمة معنى العرض. لا ثرثرة سينوغرافية، هنا الطاولة تتحول إلى قبر، تدّق عليها «فطم» كأنه قبر زوجها. تقليد يقيمه أهل الجنوب لدى زيارتهم للمقابر. تعمّق يحيى جابر في نقل صور واقعية عن البيئة الشيعية كرغبة بعض الجنوبيين بالدفن في «النجف الأشرف» والجدالات حول صوابية آراء المرجعيات الدينية بين تحليل التطبير أو تحريمه وانعدام المساحات الخضراء في الضاحية الجنوبية (فش شجر بالضاحية إلا بالمقبرة)، والاستدلال على الطرقات من خلال صور «الرئيس نبيه بري» (بتفوت من حد اليافطة يلي مكتوب عليها ويلكم إذا نفد صبره)، وزواج المتعة، والبسكويت والراحة، واللطم، وتصدّر طالبات الجنوب نتائج امتحانات «البريفيه»، وحلم استكمال الدراسة في فرنسا، وقرار عدم إنجاب الأطفال، والذكور في هذا المجتمع.
هل هذا هو «الجنوب» فعلاً؟ أي تكريس يصدّره العمل؟ وأي تفكيك يحاول المخرج إقحامنا فيه؟ هل نجح في تثبيت الخطاب النسوي؟ أسئلة قد تكون موضع شك من قبل الجمهور، لكنها تتبدّد بعدما دخل مخرج «مجدرة حمرا» في حقل مفتوح على كل تشعبات هذه البيئة، ولم يحصر الشخصيات في نمط محدد. يقول يحيى جابر «إنَّ تحاشي الدخول في نمطيات معينة، استوجب منّا إعادة صوغ الخطاب النسائي، والدخول في حياة كل امرأة، وعليه، كان الهاجس الأساسي الابتعاد عن الصورة النمطية والأحكام المسبقة، لرسم أي شخصية، بعيداً عن الخلل الكاريكاتوري الذي رُسمت فيه المرأة الجنوبية في أعمال سابقة، أكان في المسرح أو التلفزيون». ويضيف بأنَّ «تجسيد أي شخصية، يتطلب منها أن تحكي بلهجتها، وأن تقول طقوسها، وأن تذكر شعائرها. لكننا نلاحظ تعدد الشخصيات النسائية الثلاث، بين متحررِة، ومعنَّفة، وبالتالي نكون ابتعدنا عن أن تكون منمطة، واقتربنا من الواقعية. وتبقى الشكليات تفصيلاً، أمام الروح الأساسية للعرض، وهي الموضوعات التي نطرحها».
نقلت تيمة «المجدرة الحمراء» خصوصية جنوب لبنان كون أهله يتفرّدون بتحضير هذا الطبق عن سائر المناطق. صحبنا كلّ من يحيى جابر وأنجو ريحان إلى طريقة تحضير المجدرة الحمراء ومكوناتها من العدس والبرغل والبصل، لاختصار العنف، والقساوة، والتهميش، وفقر مكونات مائدة أهل الجنوب، على مدى عقود، ومعاناة النساء والأمهات، اللواتي يشكل «الذكر» تهديداً لحياتهن ومصائرهن، ولا يقل خطورةً عن أي تهديد آخر. لذا، أتت الشخصيات الثلاث مرتبطة بشخصية «الذكر»، كونه تهديداً فعلياً يختصر معاني عقائدية تراكمت على مدار عقود من الزمن. على صعيد آخر، كان لافتاً المونولوج الذي قصّه الأمن العام اللبناني. لكن يحيى جابر استبدله بتحريك الشفاه، حتى يتسنّى للجمهور تخيّل ما يحمله. هذا الخيار الإخراجي، يطرح تساؤلات عن حرية الفنانين في التعبير، واختيار المفردات، وخصوصاً أنّ مواضيع الجنس، والشهوة، والحب، لم تأتِ إلا في سياق مُحكم في العرض.

* «مجدرة حمرا»: س:2030 مساء 26 أيلول (سبتمبر) ــ «مونو» ـ البطاقات في فروع مكتبة «أنطوان» و«أنطوان أونلاين».