وبعد إسطنبول، فإن المعركة الثانية المهمّة، هي أنقرة؛ حيث يتنافس مرشّح «حزب الشعب الجمهوري»، الرئيس الحالي للبلدية منصور ياواش، ضدّ مرشّح السلطة طورغوت ألتين أوك، الذي بدأ حياته السياسية مع «حزب الحركة القومية» رئيساً لبلدية كيتشي أورين في أنقرة (ولا يزال)ولكنه انتقل بعدها إلى «حزب الفضيلة» الإسلامي ثم إلى «العدالة والتنمية». وخلال ولايته، قام بأعمال كثيرة جعلته مشهوراً على مستوى تركيا، وساعدته في ذلك شخصيته المرحة نسبيّاً وتقبّله للنقد، فيما لا تبدو الأرقام متباعدة بينه وبين ياواش. وهذا الأخير المعروف بقلّة تصريحاته ورصانته، يعتمد على خدماته وجدّيته في إدارة البلدية التي انتزعها من مرشّح السلطة عام 2019، وهو مثل ألتين أوك، من جذور قومية، مع فارق أنه واثق من قدرته على الفوز.
من أبرز ظواهر الانتخابات الحالية أن المعارضة تدخلها مفكّكة
والبلدية الثالثة، أي إزمير، قد تكون الأكثر جذباً للانتباه، خصوصاً مع قرار المعارضة تغيير مرشّحها، تونتش صوير، وترشيح آخر مكانه هو طبيب الجراحة التجميلية، جميل طوغاي (57 عاماً)، ما عكس خلافات داخلية، إذ إن هذا الأخير ليس معروفاً كثيراً في تركيا، وهو تولّى رئاسة بلدية قارشي ياقا في إزمير عام 2019 ولا يزال. أمّا منافسه عن «حزب العدالة والتنمية»، فهو حمزة داغ، الذي يتميّز بانفتاحه وقربه من الناس، علماً أنه يبلغ من العمر 44 عاماً وكان نائباً عن حزبه لأربع دورات، ومهنته الأساسية المحاماة. ورغم أن إزمير تعتبر قلعة العلمانية في تركيا منذ 100 عام، إلا أنها هذه المرّة أمام خطر فقدان لقبها، بعدما عصفت الخلافات الداخلية بـ«حزب الشعب الجمهوري»، ما أدى إلى تغيير رئيس البلدية السابق، فيما تعكس استطلاعات الرأي منافسة حامية بين حمزة داغ وجميل طوغاي، علماً أن مرشّحي «الشعب الجمهوري» يفتقدون هذه المرّة لدعم أحزاب المعارضة الأخرى.
وفي المدن الكردية الواقعة في جنوب شرقي تركيا، تبدو الخيل معقودة لمرشّحي «حزب الديموقراطية والمساواة للشعوب»، ولا سيما في ديار بكر. وتجدر الإشارة إلى أن قرار الحزب الكردي ترشيح مرشّحين مستقلين في كل المحافظات، أضعف بلا شكّ مرشحي المعارضة الآخرين. ومع ذلك، فإنه لم ينجُ من اتهامات السلطة بأنه سيتواطأ في إسطنبول تحديداً لدعم أكرم إمام أوغلو، علماً أن ثقل الحزب في هذه المدينة لا يقلّ عن 5%، وهو رقم مهمّ جداً في حال صبّ جزء منه لمصحلة إمام أوغلو.
ولعلّ من أبرز ظواهر الانتخابات الحالية، أن المعارضة تدخلها مفكّكة، بعدما تحوّل «تحالف الستة» المعارض، والذي تعاون إبّان الانتخابات الرئاسية والتشريعية في العام الماضي، إلى ست جبهات يحارب بعضها الآخر. كما أن «حزب الرفاه من جديد» انفضّ عن «تحالف الجمهور» في السلطة، ما أثار انزعاج إردوغان الذي يمارس ضغوطاً كبيرة على قاعدة فاتح إربكان، أفضت في محصلتها إلى انشقاق أحد نوابه وانضمامه إلى «العدالة والتنمية». ويستشعر إردوغان خطر الخسارة في أكثر من بلدية حساسة، وهو ما انعكس في المهرجان الذي أقامه، يوم الأحد الماضي، في إسطنبول، حيث لم يتجاوز الحضور الـ650 ألفاً، وهو الذي اعتاد أن يحشد في كلّ مرة مليوناً ونصف مليون. أيضاً، فإن من أهمّ الأوراق التي تستخدمها السلطة في هذه الدورة الانتخابية، هي الخدمات وموارد الدولة، ما يجعل الاستحقاق غير متكافئ، إذ وصل التهديد بالخدمات، إلى حد أن إردوغان شخصيّاً أعلن جهاراً، في أكثر من مهرجان انتخابي، أن المحافظة التي لن تصوّت لمرشّحي «العدالة والتنمية»، ستُحرم من الخدمات، وعلى رأسها إمدادات الغاز المنزلية، لأنه، وبحسب زعمه، يجب أن تكون السلطة البلدية على انسجام مع السلطة السياسية والوزارات والمؤسّسات التابعة لها.
ومن العلامات البارزة الأخرى التي تتكرّر في كل انتخابات، «رشوة» الزيادات على الرواتب، ومن ذلك وعود بزيادة رواتب المتقاعدين، والتي تحوّلت إلى ورقة في الانتخابات البلدية، يتوقّف على البت فيها، مصير مئات آلاف أصوات الناخبين من المتقاعدين. وحتى في حال قرّر إردوغان زيادتها قبل الانتخابات، فإن المعارضة ستحاول تجيير هذه الزيادة لمصلحتها، على اعتبار أنها هي التي تضغط لإقرارها. وعلى مستوى السياسة الخارجية، فإن الموقف من حرب غزة يمرّ لماماً، ولا يحتلّ حيّزاً بارزاً في خطب المرشّحين؛ فمرشّحو «العدالة والتنمية» محاصرون بسؤال العلاقات التجارية مع إسرائيل، فيما معظم زعماء المعارضة لا يسجّلون مواقف من القضية الفلسطينية، إلا من باب إحراج إردوغان. وعلى أي حال، يبقى الاقتصاد عاملاً مهمّاً في اختيارات الناخبين، حيث يرى 85% من الأتراك، وفقاً لاستطلاع شركة «إيبسوس»، أن المشكلة الأكبر في تركيا هي الوضع الاقتصادي، مع انهيار سعر صرف الليرة وتراجع القيمة الشرائية للرواتب إلى حد دفع المصرف المركزي، قبل أيام، إلى رفع قيمة الفائدة إلى 50%.