ظهرت أولى تداعيات الانتخابات البلدية في تركيا، بإعلان زعيمة «الحزب الجيّد»، مرال آقشينير، نيّتها عدم الترشّح لزعامة الحزب في المؤتمر الاستثنائي الذي دعت إليه في الـ27 من نيسان الجاري. فبعد الخسارة الكبيرة التي مني بها «الجيّد» في تلك الانتخابات، تعالت الأصوات المنادية باستقالة آقشينير، ما دفعها إلى الإعلان عن عقد مؤتمر استثنائي للحزب، الذي قرّرت التخلّي عن رئاسته، عادّةً ذلك «الثمن الذي يجب أن أدفعه مقابل الهزيمة، وأنا راضية به». وفور إعلانها هذا، بدأت معركة خلافتها بإعلان عدد من القياديين في الحزب، ترشّحهم لرئاسته، وهم: غوناي قوداز، ومحمد تولغا أقالين، ومساوات دريش أوغلو، وقوراي آيدين، علماً أن الأخيرَين يُعدّان أبرز المنافسين. وآقشينير هي المرأة الثانية في الحياة السياسية التركية، بعد طانسو تشيللر التي تولّت زعامة «حزب الطريق المستقيم» مع تولّي رئيسه سليمان ديميريل، رئاسة الجمهورية في عام 1993، لتصبح بذلك أول رئيسة حكومة في تاريخ الأتراك. أما رهشان أجاويد، زوجة بولنت أجاويد، التي تولّت رئاسة «حزب اليسار الديموقراطي» لبعض الوقت (1985 - 1987)، فلم تنخرط جدّياً في الحياة السياسية، وتركت الأمر لزوجها بعد رفع القيود السياسية عنه وعن زعماء آخرين. أنهت آقشينير، البالغة من العمر 68 عاماً، الدكتوراه في التاريخ من جامعة مرمرة، وبدأت حياتها السياسية رئيسة لبلدية إزميت عند الساحل الشرقي لبحر مرمرة عام 1994، عن «حزب الطريق المستقيم». وفي العام التالي، انتُخبت نائبة عن الحزب عن مدينة إسطنبول. لكن نجمها بدأ يسطع عندما تولّت، في عام 1996، وزارة الداخلية في الحكومة التي ترأّسها زعيم «حزب الرفاه»، نجم الدين إربكان، بالشراكة مع تشيللر. وفي عام 2001، استقالت من حزبها لتنتقل إلى عضوية «حزب الحركة القومية» اليميني المتشدّد، والذي كانت نائبة عنه في دورات 2007 و2011 و2015 عن إسطنبول. غير أن نقطة التحوّل الرئيسة في مسيرتها السياسية، كانت بعد طردها من الحزب الأخير بفعل خلافات مع زعيمه، دولت باهتشلي، لتؤسّس، في عام 2017، «الحزب الجيّد» الذي يحمل خصائص النزعة القومية ذاتها، مع فارق أنه ظلّ جزءاً من المعارضين لسلطة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، المتحالف مع باهتشلي. كذلك، ترشّحت آقشينير لرئاسة الجمهورية في 24 حزيران 2018، ونالت 7.29% من الأصوات، فيما حصل حزبها، «الجيّد»، على حوالى 10% من الأصوات في الانتخابات النيابية، أي أقلّ بنقطة واحدة تقريباً عن حزبها السابق، «الحركة القومية»، فدخلت البرلمان بـ43 نائباً، لتكون الحزب الخامس فيه. والمفارقة الكبرى، أن «الحزب الجيّد» لم يكن، آنذاك، مخوّلاً خوض الانتخابات النيابية، كونه لم يمتلك كتلة في البرلمان من 20 نائباً، فكان أن انتقل 15 نائباً من «حزب الشعب الجمهوري» المعارض إلى «الجيّد» حتى يشكّل الأخير كتلته.
وفي عام 2019، حصل الحزب على 7.45% في الانتخابات البلدية، ليصبح الحزب الثالث، متقدّماً على منافسه في التيار القومي، «الحركة القومية»، علماً أنه كان لدعمه مرشّحي «الشعب الجمهوري» في بلديّتَي إسطنبول وأنقرة، دور كبير في فوز كل من أكرم إمام أوغلو ومنصور ياواش. لكن أمّ المعارك التي خاضتها مرال آقشينير، كانت في الانتخابات النيابية والرئاسية في أيار من العام الماضي، حيث كان «الجيّد» الركن الرئيس الثاني بعد «الشعب الجمهوري» في «تحالف الأمّة» الذي شكّلته المعارضة لمواجهة «تحالف الجمهور» المكوّن من أحزاب «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية» و«الرفاه من جديد» و«الدعوة الحرة». ولعبت آقشينير، في حينه، دوراً مثيراً، إذ تذبذبت مواقفها بعدما أعلنت اعتراضها على ترشيح كمال كيليتشدار أوغلو ولاحقاً انسحابها من التحالف المعارض، لكنها عادت وتراجعت عن قرارها. ورغم عودتها، أدّت خطوتها إلى حدوث بلبلة في صفوف المعارضة وإضعافها، وخصوصاً أن أحد نواب حزبها رأى أن كيليتشدار أوغلو لا حظّ له في النجاح لأنه ينتمي إلى المذهب العلوي. وفي الانتخابات النيابة، احتلّ «الحزب الجيّد» المركز الرابع بنسبة 10% و43 نائباً، متأخّراً بنقطة واحدة عن «الحركة القومية» الذي دخل بـ49 نائباً.
على أن نهاية السباق السياسي لآقشينير، كانت مع الانتخابات البلدية التي جرت في نهاية آذار المنصرم، إذ خاضت أحزاب المعارضة السباق، مفكّكة. وهذا الأمر، إضافة إلى الخلافات الداخلية في الحزب، ربّما أثّر على شعبية «الجيّد» الذي كان أكبر الخاسرين، إذ نال 3.7% فقط، متراجعاً بأكثر من النصف عمّا حصل عليه في الانتخابات النيابية، وحوالى النصف عمّا ناله في انتخابات 2019 البلدية، ولم يفز إلا برئاسة بلدية واحدة كبيرة، هي نيف شهر. واليوم، مع انتظار انتخاب رئيس جديد لـ«الجيّد»، لا أحد يعرف تماماً المسار الذي سيسلكه الحزب؛ فهل سيُعيد بناء نفسه ويبقى في صفوف المعارضة، أم أنه سيرسم خطاً جديداً؟ وهل سيكون أمام انتعاشة جديدة، أم سيتّجه نحو الانحلال؟ والجدير ذكره، هنا، أن إردوغان حاول أكثر من مرّة استمالة مرال آقشينير، لكنه كان، في كل مرّة، يواجه رفض حليفه باهتشلي، الغاضب على تمرّد آقشينير عليه في عام 2017. لكن ربّما يجد إردوغان الآن الفرصة مؤاتية لاستمالة نواب «الجيّد» الـ43، لتأييد تحويل اقتراح تعديل الدستور إلى استفتاء شعبي، وهو ما يحتاج إلى ثلاثة أخماس عدد نواب البرلمان، أي 360 صوتاً، فيما يمتلك التحالف الحاكم 317 نائباً فقط.