الهرمل، مدينة الشهداء، هناك، بعيداً عن كلّ شيء، بعد رحلة بالفان الرقم 18 تمتدّ 3 ساعات من بيروت، ترى فيها الأرض الحقيقية والناس الحقيقيين والسهول الممتدّة والجبال الجبّارة. مع كلّ دقيقة صعوداً تزداد الدنيا جمالاً، والناس فقراً. تمرّ في القرى المقدّسة القرية تلو الأخرى.العمران يقلّ، السيارات تقلّ أيضاً، لا يبقى سوى الحواجز والجرود، وأصحاب الأرض.
تخال نفسك في صحراء قاحلة. تسأل أين لبنان الذي نراه على التلفزيون؟ أين الإنماء المتوازن الذي تقاذفته الحكومات في ما بينها منذ تأسيس الدولة اللبنانية على يد الاستعمار الفرنسي منذ قرن من الزمن؟ أين الناس؟ أين الأخضر حلو؟ أين وأين؟ تصمت فجأة، إنها الهرمل! إنه النهر الذي عصى على ما هو مألوف ومتعارف عليه فسار بعكس ما هو مشهور من سير الأنهار التي تنبع من الشمال متدفقة إلى الجنوب، فهو ينبع من الشمال نحو الشمال مزهوّاً طاهراً، يزداد صلابة يوماً بعد يوم، يقوى بدماء الشهداء التي سُمّيت المدينة باسمهم. كل شيء مختلف في الهرمل عمّا اعتدت رؤيته في ما تسمّيه حياتك، الناس كلّهم يسلّمون ويردّون السلام، البيوت كلّها بيتك، الأبواب المفتوحة، الثقافة الرفيعة صفة ملازمة للجميع، المرأة القوية، الصبر الذى كوى أهلها على سياسات دولة قلّة الإحساس بالانتماء إليها مقابل انتماء كبير لقضية الحق والإنسان أينما كان مظلوماً. يذهبون جنوباً جنوباً للالتحام بقافلة الجهاد والشهادة على خط النار فرحين، لا يطمعون بمقاومة أنيقة خلف المكاتب وتحت المكيّفات، إنهم خط النار. تختصر الهرمل بواقعها قرى البقاع كلّها، في الشرقي والغربي والجرد. كل القرى تراها في الهرمل، تعرف أن كلّ ما أوهموك بأنه من ضروريات حياتك هو مجرّد بدع وسلع حوّلتك آلة استهلاكية تعبد إلهين، المال والمعدة، فيما الإله الواحد الأحد تدركه الأبصار
فيها.
ما حاجتك إلى الأسواق الكبرى والسيارات والمطاعم والعطور والملابس الفخمة والتلفاز والمصاعد والصرّافين وإشارات السير إلخ؟ كلّ ما تحتاج إليه في الهرمل هو ورقة وقلم أو ذاكرة قويّة كذاكرة أهلها لتسجّل ما تراه عينك من عجائب «حيث يصحّ قول الشاعر العراقي مظفّر النوّاب في الهرمل: «لا تخف إننا أمة لو جهنم صبّت على رأسها، واقفه». صمت وتواطأ الممثلون على أهل بعلبك ـــــ الهرمل لا عنهم، سياسة اقتصادية وحشية تزدهر على حساب جوع المزارعين وحرمان الناس في البقاع. تضحية في سبيل حياة أسواق الفحش في العاصمة العروس التي أنجب منها الجميع. سلاح وطني موجّه نحو صدر كلّ من يخرج شاهراً سيفه من أجل تأمين قوت أولاده، تلف المحصول الزراعي سنوياً من الحشيشة دون بذل أي عناء يوفّر لهم بدائل منطقية جدية تضمن لهم العيش الكريم وتردّ المناضلين الطفّار إلى منازلهم وأطفالهم بديلاً من الجرود التي فضّلوا العيش فيها وتحمّل مصاعب الطبيعة على تحمّل ظلم جائر لحق بهم من عدوّ واضح وأخ جبان. ابتزاز الناس اسمه «ضرائب»، فمن يحصل في الشهر على مبلغ يوازي ما يحصل عليه غيره في اليوم، يدفع الضريبة نفسها. والمتكرّش ذو ربطة العنق يدفع «بخشيشاً» في الوسخ التجاري، يوازي ما يجنيه ربّ عائلة في الهرمل على مدار أشهر. وكلّما زاد الابتزاز الرسمي كثرت السيارات المصفحة في المواكب الهوليوودية وازداد عدد الملاهي الليلية «الرسمية» وازدادت السياحة جوراً والإعلام تمجيداً للقضيّة الربّيحة. ترى كلّ هذا وأنت تسجّل مذهولاً صامتاً، تريد الركوع إجلالاً لعظمة مسنّ هرملانيّ يستبقيك غصباً إلى مائدة غداء... حُرم منها منذ زمن.