لا تضيف كثرة استخدامنا اللغة العربية في الكتابة والقراءة، قيمةً إلى حروف هذه اللغة الآخذة في الاندثار. الحروف المتراصة، فنّ لم يُطوَّر منذ عقود بعيدة. الاهتمام بالخط، أو التيبوغرافيا العربية، اقتصر غالباً على استعمال الخطوط القديمة، في إطار استعادي، لا يخلو من النوستالجيا. لكن المحاولات الجديّة لابتكار خطوط جديدة، بقيت غائبة بخلاف سيرورة الحروف اللاتينية.
«لا خطوط عربية مناسبة للتصميم الحداثي والعصري»، تقول هدى أبي فارس. من هذا الواقع المتناقض مع تطور الفنون البصرية، حاولت مصممة الغرافيك اللبنانية المقيمة في هولندا، نقل التيبوغرافيا العربية إلى مرتبة أعلى، بعد زمن من التجاهل والإهمال. هكذا، أسست «مؤسسة خط» عام 2004، وحمل أول مشاريعها في نيسان (أبريل) 2005 عنوان «المزاوجة التيبوغرافية». كان الهدف الرئيسي من المشروع، تلبية المتطلبات التيبوغرافية الثنائية اللغة (عربي ولاتيني)، من خلال ابتكار خطوط عربية معاصرة، يمكن أن تُستخدم في مجالاتنا اليومية كالمطبوعات، والتطبيقات الإعلامية، لا بل تسهم في تحديثها...
يهدف المشروع إلى ابتكار خطوط طباعية عربية حديثة. من خلال ورش عمل شملت مصممين غرافيكيين هولنديين وعرباً، ابتدعت المؤسسة خمسة خطوط طباعية عربية حديثة، قد تسهم في تحديث النصوص الكتابية، من خلال الحلول التصميمية التي قدمتها. وقد وُثِّقت نتائج المشروع في كتاب «المزاوجة التيبوغرافية» (دار بيس للنشر ــــ أمستردام 2007)، وعرضته هدى أبي فارس قبل أيام للجمهور اللبناني في محاضرة استضافها هذا الأسبوع «مركز بيروت للفنّ».
ترك الكتاب أثراً مهمّاً في عالم التيبوغرافيا العربيّة؛ إذ اعتمد العديد من دور النشر وبعض الصحف اليومية الخطوط الجديدة. كذلك منح «نادي مديري الخطوط الطباعية في نيويورك» TDC جائزة التميز في مجال التصميم الطباعي لخط «فرسكو» المستحدث.
بعد هذا النجاح، كان لا بدّ لأبي فارس من أن تبدأ جولة أخرى سريعاً. الهوّة بين الخط العربي والخطوط الأخرى واسعة. خاضت تجربتها الجديدة من خلال طرح سؤال بسيط: «كيف السبيل إلى تصميم أنظمة خاصة بالخط الطباعي، أو بالأحرف المكتوبة، تكون معدّة للاستخدام في المساحة العامة (...) في إطار منظر طبيعي مديني مزدحم من الناحية البصرية؟». هكذا أبصر النور في شباط (فبراير) 2009، مشروعها الثاني «المزاوجة التيبوغرافية في المدينة»، الذي عرضت خلاصاته مطلع هذا الأسبوع في «مركز بيروت للفن».
يهدف المشروع إلى تزويد الناس بملاحظات ملموسة عن الاختلافات القائمة والمبادئ المشتركة بين الخط اللاتيني والخط العربي. ويبحث المشروع أيضاً في الموروثات الثقافية والمعمارية للتصميم الطباعي، في مساحة مدينية ثلاثية الأبعاد، في مدن عدة، ضمن سياقات ثقافية متنوعة. هذا إضافة إلى ابتكار مقاربة مختلفة للحروف المكتوبة، تسهم في إيجاد نوع بديل من المساحة العامة التيبوغرافية، وشكل جديد من الروح المدينية المادية.
تراهن هدى أبي فارس على الانتقال بفن التيبوغرافيا العربية إلى الحيز العام. وتبحث في كيفية إعادة الاعتبار إلى هذا الفضاء المديني، وتحديد هويته الثقافية وخصوصيته. وقد انطلقت في سعيها هذا من مسألة الهوية التي أثارها التطور المديني الحضري الحالي، بعدما تماهت المدن بعضها مع بعض وتشابهت، إلى درجة صار يصعب تمييز شارع في دبي عن مثيل له في نيويورك.
أثناء تعريفها لمشروع «المزاوجة التيبوغرافية في المدينة» في «مركز بيروت للفنّ» BAC، تطرّقت هدى أبي فارس إلى مسألة التصميم التيبوغرافي المنتشر في مدننا العربية، بطرق فوضوية واستهلاكية في معظم الأحيان. وهي ترى أن التيبوغرافيا، والأبجديات عموماً، تتألف من طبقات عدّة، تتحدث بفصاحة وبلاغة عن الحضارة الإنسانية. فالحروف وفلسفة تصميمها تمثّلان المعنى الحرفي للنص الذي تهدف إلى تصويره، من خلال الرسائل الضمنية التي تنقلها الخيارات البصرية، ومظهر الشكل التيبوغرافي.
رحلة بحث مضنية، خاضتها فرق العمل في إطار «المزاوجة التيبوغرافية في المدينة». انطلقت الرحلة من أسئلة البحث عن وسائل جديدة لاستنباط الروابط القائمة والممكنة بين النص والعمارة، وابتكار مساحات ذات خط طباعي معماري ثلاثي الأبعاد. الطموح الأوّل لهذه المقاربة البحثيّة، هو أن «تعيد الشارع إلى أحضان الناس». في الخلاصة، خرج الفريق بأدوات جديدة لدمج أنظمة الحروف المكتوبة، والخط الطباعي الثنائي اللغة، بأسلوب يتناغم مع البيئة، في اختبار للشكل والمادة وقابلية الاستخدام والمقروئية.
هكذا، أعيد إحياء تقليد الأحرف المنقوشة في العمارة، لكن على نحو متطور وفي سياق معاصر. لا يدّعي أصحاب التجربة ترجمة خطوطهم المستحدثة إلى تيبوغرافيا حقيقية، لكنّهم متأكدون من مكانتها البصرية، ومن إمكان تطويرها في المستقبل.

www.khtt.net