يجب أن لا تنام عينُ الصرامة الذاتيّة.استنفار الوعي النقدي الذاتي واجبٌ أخلاقيّ، مهما علا شأن الموهبة، ومهما تراكم للمرء من خبرة وسلطة. فخّ السخافة والبهدلة يتربّص حيث لا ننتظره. يجب أن لا تنام عين الصرامة الذاتيّة.
لا نثق بالإلهام إلّا مروراً بهذا الحارس. التدفّق الأدبي الارتجالي أو الإملاء الأوتوماتيكي أو الكتابة والرسم والتلحين غَرْفاً من هذيان المخدّرات نصيبها من الخلق نصيب الورد ممّا يجرفه النهر. العفوية العمياء شبه مستحيلة خارج نطاق الشرارات الأولى. بعدها يصحو الذهن، ولا بدّ من توازن بين الصامت والناطق، الدفين والظاهر، التلقائي والراشد. هنا لا مجال للتذرّع بالحريّة. للكاتب أن يتكاسل في الكميّة، التراخي في النوعيّة زعبرة وإهانة.
لا مفرّ من تشدّد مع الذات في أيّ شيء ولو كان لهواً. منذ الطفولة. لا أجمل من الأطفال، ولا أثقل من أطفالٍ مهروقين. يجب أن نجمع، في التنشئة وفي مختلف أنواع العلاقة والتعامل، بين اللين والصلابة، المرونة والجدّ. أمّا مع الذات فلا حدود للتشدّد. كلّما قسونا على أنفسنا ساعدناها في اجتياز المسافات الصعبة دون توَكُّؤ والمسافات المفرحة دون إزعاج. القسوةُ مع الذات حارسُ النوعيّة مثلما الوعي حارسُ اللاوعي، ولولا هذا الأستاذ لتهافَتَ الفعل، أو الكتابة أو السَمَر، إلى الحضيض.

■ ■ ■

تتعاظم الحاجة إلى التشدّد ـــــ مع الذات وحيال الآخرين ـــــ بتفاقم غزارة الإنتاج الفنّي والكتابي في العالم، وبطغيان العامل التجاري على هذا الإنتاج، واستسلام «المستهلك» لقبضة الترويج الإعلاني، واعتماد الترويج على نماذج محدّدة من «البضاعة» تلبّي معايير السوق. وإنْ حقّق هذا النتاج إنجازاً فهو لا يتجاوز التشويق البوليسي أو الإرعابي المُنمَّط، ويبقى أبرز ما فيه سباقه مع نفسه، أي مع عناصر الإعجاب التجارية. ولا يتورّع الترويج عن الكذب سواء في الإعلان المباشر أو عبر مقالات «النقّاد»، فيخلع على الكتب والأقراص والأفلام وغير ذلك ممّا يُراد بيعه نعوتاً أقلّها العبقريّة، ولا يكتشف المستهلك زَيفها إلّا بعد أن يكون قد أكل الضرب.
هذا إذا اكتشف. فقد بلغ الترويج من البراعة حدّ تكوين مدنيّة من الأوبئة يُعْمَل على إحلالها محل الهواء. مدنيّة توحي أنّ ما كان قبلها جاهليّة. مدنيّة ترويج الأطعمة المسرطنة والأدوية المغشوشة والإباحة الجنسيّة القاتلة للرغبة والأزياء الماحية للاختلاف وثقافة السندويش. اللغة، عمود الحضارة، تُجوَّف وتُعمى وتُخصى وتُقزَّم إلى تأتآت. ولا تسل عن حقائق التاريخ، فقد أصبح التاريخ محميّة صهيونيّة. كما هي السينما الغربيّة، كذلك الإعلام الغربي وجزء مهمّ من الإعلام العربي، مستعمرة إسرائيلية. ولا تسل عن الموسيقى، لا موسيقى، انتهت الموسيقى.
نتوسّل إلى أمثال «الراعي العصري» الوليد بن طلال، من أيّ جنسيّة كانوا ـــــ وكلّهم في النهاية من جنسيّة واحدة هي جنسيّة الممحاة ـــــ أن يتركوا لنا تراث الماضي ولا يمدّوا عصاهم إليه. لا يرموا عباءتهم عليه. ارحموا تخلّفنا.
ولا تسل عن القصّة، كلّ واحدٍ في الحارة يكتب قصّته ثم قصّة قصّته. ولا عن الشعر، في يوميّات المراهقين إحساسٌ أكثر ممّا في ما ينشره معظم الشعراء. ولا عن المسرح، فإمّا تهريج تقشعرّ لبشاعته الأبدان وإمّا انطواءٌ على التجريب يختنق ويخنق.
ولا تسل عن النقد، طبعاً.

■ ■ ■

صرنا، أمام هولِ العُتْه النوعيّ في الأدب وفي كلّ شيء، نشتهي أيّ ردعٍ كان. حتّى الرقابة. أجل، يا ليت! أيّ انضباطٍ كان، رجاء! أيّ حزامٍ يلجم هذا الانهيار! إعادةُ الاعتبار إلى العَصَب، التهيُّب، الكدّ، الجديّة. لا أفهم كيف يتفلسف فلاسفةٌ لا يجيدون التفكير ولا التعبير، ولا كيف يكتب شعراء لا يَشعرون، ولا كيف يصوّر رسّامون يجهلون الرسم، ولا كيف يلحّن أشخاصٌ أذواقهم أقرب إلى البلطجيّة، ولا كيف يدير الرأيَ العام مرتزقةٌ لدى المال الخاص وأجهزة الاستخبارات، ولا كيف يتعايش الخيرُ القليل الذي لا يزال يكافح، مع العولمة الأميركيّة ودكتاتوريّة التهبيل.
في الشعر، نرتجف أمام هول الفوضى حتّى لنتمنّى رجوعاً إلى الوزن والقافية علّه يعيد بعض المياه إلى قنوات العناء وتَحسُّس قيمة التعبير، قيمة الصورة، بلاغة الإيقاع، وأوّلاً وقبل الجميع، انبثاق الكتابةِ من العالم الداخلي، من انحناءات الضمير على الشعور والشعور على الكلمات. والتجربةُ الحيّة، أين التجربة الحيّة، ولو كانت ذهنيّة وغير معيشة؟ ولو كانت موهومة؟ لن نعدّد باقي الأصول، الشعرُ يعرفه ذووه.

■ ■ ■

يمكن أن تنشأ مختلف أنواع التدهور والانحطاط عن الميوعة والتسيُّب ولا ينشأ عن القسوة على الذات إلّا الحقّ.
لا يخالجنا شكّ في أهميّة التجديد، ونحن من عشّاقه، شرطَ أن تُسيّجه عينُ نقدِ صاحِبِه فيسبق معارضيه إلى غربلة نفسه ويكون تجديده نفحة حياة، إضافة، إشباعاً لنقص، نفضاً لموت، فَتْحاً، ولادة. يغدو ما بَعْده أكثر امتلاءً ممّا قبله، وما قبله فقيراً إليه.

■ ■ ■

في هذه الدعوة إلى حزم النفس ضدّ الهَرْقة ملامحُ سادو ـــــ مازوشيّة. وهي كذلك. الحياةُ صراعٌ ضدّ طفيليّاتها. الصراعُ ألم. مَنْع النفس من الاسترخاءات المقرفة عنصرٌ جوهريّ في العلاقات وعنصرٌ مقدَّس في العمل الفنّي والأدبي. ضغطُ الطبع واجبٌ أخلاقيّ وخدمةٌ لصاحب الطبع: كلّ ما يُعاد إلى الباطن يتحوّل إلى ذهب. الباطن لا يخون. الكبتُ يُصعّد العاطفة ويشحن الروح ويملأ العينين ...
طوبى لمَن فيه عيبٌ يعقّده. طوبى للمحرومين لأنّهم يوهَبون. طوبى للحدود حتّى لا نقع. للحدود كي نجتازها. كي نجتازها ونضع حدوداً جديدة.
السهولةُ الطيّبة تنتظركَ وراءَ الخطرِ كما تَنتظر السهولُ وراءَ الجبال.



سوريــــــا

قوبلتْ صفحة السبت الفائت بانتقاد العديد من القرّاء: قتلى وجرحى في سوريا وليبيا واليمن، وكاتبٌ يكتب عن إليزابيت تايلور.
أيّ شيءٍ أقوله سيبدو تبريراً للتهرّب، وخاصةً بالنسبة إلى الوضع في سوريا. الحقيقة أبسط: الانتفاضات الجارية في البلدان العربيّة حركة يوميّة مستمرّة، وتيرتها تُسابق القلم، وغياب فنّانة بأهميّة إليزابيت تايلور، سكنت وستسكن الذاكرة، هو محطّة لا أستطيع تجاوزها. بين فنّان وحدث سياسي، أختارُ الفنّان. بين أفولٍ وإطلالة، وداعُ الأفول. الإطلالة «لاحقة»، كما نقول.
هذا لا يُعفي من ملاحظة: بدأت تتكوّن حول الانتفاضات تخوّفات. ما انطلق عفويّاً طاهراً يتهدّده هنا وهناك خطرُ استعمالٍ غير بريء وخطرُ تجييرٍ وتوظيف أقلّ ما يمكن وصفهما أنّهما مجهولا الهويّة. المؤكد الإيجابي الوحيد حتّى الآن في هذا المدّ هو كسرُ الخوف من أنظمةِ القمع. موقفنا من هذا مبدئي، وندعو إلى تعميم النموذج. مع الرجاء أن تسفر الانتفاضات عن نتائج لا تحلّ فيها مقدّسات إرهابيّة جديدة محلّ مقدّساتٍ إرهابيّة قديمة.
خجلُ الكتابةِ في معارك الأحرار أنّها لا تستطيع أن تدفع الثمن الذي يدفعونه. وخوفها المقيم هو أن تتحوّل إلى شاهد زور.
ملاحظة ثانية: سوريا ... سوريا السؤال الأكبر. قلب الجميع على سوريا لأنّ سوريا قلب الجميع.
لا يُزاد على المناشدات التي وُجّهت إلى الرئيس السوري. لنقل فقط إنّ البطء في تنفيذ المطالب الشعبيّة مؤذٍ للفريقين. ليس الوقت وقت بيروقراطيّة بل مبادرة. وسخاءُ التجاوب قوّة لا ضعف.
حمى اللّه سوريا. نحن اللبنانيّين أصلحُ مَن يُنبّه إلى خطر الانقسام وإلى فوائد التضحية.
أخطرُ بلاغٍ عن مقدار الهَلَع على سوريا هو أن نصف اللبنانيين، الذين حملتهم العقود والسنوات الماضية على معاداة السلطة السوريّة، هم اليوم قلبٌ واحد في الدعاء لها مع النصف الآخر. حمى اللّه سوريا.
لقد خرج الشعب السوري من الصمت، ولا مفرّ من ملاقاته بتحقيق مطالبه. والتذرّع بالمؤامرات الخارجيّة، حتّى لو صحّت، لا يعيد الحناجر إلى أغمادها. فليتسلّح الحكم بشجاعة التغيير لأن الحفاظ على الجمود لم يعد حفاظاً على الأمن ولا مصدراً للهيبة. فليسبق الحكمُ التغيير قبل أن يسبقه.
سوريا هي الأصعب.
ليت السوريّين يدركون، من القصر إلى الشارع، أنّ مصير المنطقة يتقرّر الآن على أرضهم.