لا يمكن خبيراً ثورياً إلّا أن يصاب بالذهول في حضرة بعض «الثورات» العربية، حتى لا أقول كلّها، ليس لأنّها لا تشبه الثورات على «الاستعمار والإمبريالية» فحسب، بل لأنّها تحيل إلى «الثورة العربية الكبرى» بزعامة هاشميي الأردن. كذلك تفوح من بعضها رائحة «الثورة العراقية» تحت الاحتلال ضد النظام السابق، وأخرى شأن «ثورة الكونترا» في نيكاراغوا، و«الكوبيين البيض»، وغيرها من ثورات من تصفهم الأجهزة الأمنية الغربية بـ«الديموقراطيين» أو «المقاتلين من أجل الحرية». وكدت أن أحشر الأوكرانيين والجورجيين وبولونيي ليخ فاليسا، وتشيكيي فاكلاف هافل في هذه الخانة، فاستدركت لظني أنّ هذه التجارب تنتمي إلى الفضاء الأوروبي أو الأطلسي «السيد»، وهي مندمجة، أو مرشحة للاندماج فيه، وبالتالي تتصل بديموقراطية السادة، ولا تتساوى مع «ثورات» التابعين، الموصوفة ديموقراطياً على سبيل المجاملة. ولا نظلم بعض «الثورات» العربية عندما نرى شبهاً لها مع «ثورة لورانس»، في مطالع القرن العشرين. ذلك أنّها تنطلق أو تدور أو تنجز أو تختم، بمساعدة من الدول الغربية، بل يصل التشارك بين الثوار والسادة الغربيين إلى حد يسمح باحتجاج علني أبداه «ثوار ليبيا» على الحلف الأطلسي، لأنّه لا يقصف «مواقع القذافي»، وينبغي أن تقصف. وتقول صحيفة «لو كانار أنشينه» الباريسية، إنّ الثوار الليبيين تقدموا من الاستخبارات الخارجية الفرنسية بطلب رسمي لتدبير اغتيال العقيد الليبي، الأمر الذي أثار حفيظة المعنيين وتعليقاتهم الساخرة. ولا تثريب على هذه الشراكة من جهة الغرب، بل هي واجبة بحسب الرئيس الفرنسي ساركوزي، الذي أكد لمن يرغب أنّ الثورات العربية «لم ترفع شعارات إسلامية ولم تطلب الموت للغرب وهي تناضل من أجل سيادة القيم الغربية فلماذا نتردد في دعمها؟».
لا حاجة للنظر إلى هذه الشراكة بغير ما ذكر الأمير شكيب أرسلان، شاهد «الثورة الهاشمية» الكبرى، إذ قال في كتابه الشهير «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟»، «ما أنزل بالإسلام والمسلمين وبالعروبة والعرب مثل هذا الهوان إلّا الدول التي وسمت نفسها بالديموقراطية، ولا استعبدهم إلا الزاعمون أنّهم أنصار الحرية، فعلى المسلمين عموماً والعرب خصوصاً، إذا أرادوا الشفاء من مرضهم أن يحسنوا تشخيصه». ولعل الأمير اللبناني لا ينام قرير العين مع ثورات لم تحسن تشخيص أمراض العرب والمسلمين، فظنّ بعضها أنّ طغيان الحاكم المحلي يبرر ارتكاب الكبائر، وبالتالي عقد شراكة «ثورية» مع طغاة العالم.
ولا نجرد بعض ثوريي هذه الأيام من حسن النية، فحالهم كحال أسلافهم الذين عملوا مع «لورانس العرب»، وما كان لأحد أن يرميهم بالعمالة للأجنبي أو لبريطانيا في حينه. حصل ذلك بعدما تبيّن لاحقاً أنّ الحلفاء أشرفوا على توطين المشروع الصهيوني في فلسطين، وقسموا بلاد العرب إلى ولايات جمهورية وملكية، وتنكّروا لوعد المملكة العربية المتحدة، ثم تحاصصوا بلداننا وثرواتنا وتوزعوا النفوذ فيها والوصاية عليها. هكذا كانت الحال، وهكذا استمرّت، وهذا ما هو قائم إلى هذه الساعة، وقد ترسخ عبر اتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، وكان يراد له أن يتسع، بحيث تنضمّ اتفاقات مماثلة إلى شقيقاتها، غير أنّ المقاومتين اللبنانية والفلسطينية مانعت، ومعها سوريا التي صارت هدفاً «للتغيير» أو «الاغتيال»، لا فرق، بعد احتلال العراق. غير أنّ المشروع الأميركي فشل، وانطوى معه التغيير، وابتعد أكثر فأكثر بعد حرب لبنان وحرب غزة، ليعود مجدداً من الداخل وعبر بعض الفضائيات بصيغة إصلاحية، تبتغي القتل بذريعة التغيير.

العناق بالخناق

الواضح أنّ «الثورات العربية» طرأت بعدما استقرّت في العالم العربي حالة جمود خطيرة. فقد وضعت القضية الفلسطينية في الثلاجة، ومعها الجولان. وعاش لبنان حالاً من اللاحرب واللاسلام مع إسرائيل، ومثله قطاع غزة. والتزمت واشنطن الصمت، بعد تراجع أوباما عن ضغوطه لوقف الاستيطان، وانزواء بلاده الاستراتيجي بعد إخفاقاتها الشرق أوسطية، وتلقّيها إصابات مباشرة في العراق وأفغانستان، فضلاً عن أزمة الأسواق المالية العالمية. كلّ ذلك جعل الموقف العربي في مواجهة احتمالات ثلاثة:
أولاً: قلب الطاولة على الصهاينة والأميركيين، والتخلص مرة واحدة من الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي وهو أمر متعذر، لأنّ سلطة القرار في العالم العربي في قبضة دول «معتدلة»، ينسب إليها الحرص على رعاية توازن إقليمي تكون تل أبيب طرفاً أساسياً فيه.
ثانياً: الانخراط في صراعات مذهبية وإثنية، لإغراق تيار المقاومة في مستنقع أهلي لا نجاة منه. وقد نجح التيار، حتى الآن، في تجنب هذا المستنقع.
ثالثاً: انفجار عفوي هنا وهناك، بأثر من التعبئة المتواصلة في الفضائيات ووسائل الاتصال الحديثة ضد الأنظمة العربية، دون تمييز بين نظام مناهض للغرب وإسرائيل، وآخر موال لهما، وهو ما يقع منذ أواخر العام الماضي.
الجدير بالذكر أنّ الحملات التحريضية على الأنظمة العربية، نجحت في تفكيك مسلّمات مهمة في الثقافة السياسية العربية، من بينها أنّ أمر التنمية والتخلف في العالم العربي ليس شأناً داخلياً منعزلاً عن الصراع مع إسرائيل وعن ميزان القوى مع الغرب. كذلك نجحت في تصوير الحاكم العربي على أنّه أكثر عداءً لشعبه من الصهاينة، وبدا من خلال الاستماع إلى بعض هذه الحملات أنّ الجهاد المقدس يجب أن يكون ضد الحكام لا ضد الغرب، بل بدا أحياناً أنّ الولايات المتحدة والغرب هم أفضل للعرب في ثقافة الفضائيات من رؤسائهم وملوكهم. وما كان ذلك الجهد المتواصل مستهجناً، فهو ينطلق من بلدان تحميها قواعد وأساطيل أميركية وغربية. واللافت في هذا الصدد، أنّ تيار الممانعة والمقاومة كان يبتهج بالإطلالات التي توفرها الفضائيات لبعض رموزه، ويفتخر بـ«عروبتها المزعومة»، غير مدرك أنّها تسعى معه إلى ضرب من «العناق بالخناق».
مثّل احتراق «البوعزيزي» في تونس منطلقاً لانتفاضة ناجحة وسريعة ضد زين العابدين بن علي، وهو حاكم أوتوقراطي مترهّل وفاسد ومستبد، استسلم للصهاينة والغرب، وحصل منهم على ما يحتاج له من صكوك الغفران للتعاطي مع شعبه بالطريقة التي يحب. وانتهت الانتفاضة إلى رحيل ذلك النظام من دون أن يدافع عنه ألف متظاهر في الشارع. مثله كان حال الرئيس حسني مبارك، الذي ارتكب الكبائر في العلاقة مع الصهاينة، وتجاوز كلّ المحرّمات في علاقته بالفلسطينيين، متذرعاً بمشاركته في حرب أكتوبر 73، فإذا به يرحل هو الآخر مكتشفاً، في لحظات حكمه الأخيرة، أنّ جماهيره المصفقة والمهللة أشبه بديكور يحتل شاشات التفلزة لا الساحات العامة. ثم كرت السبحة، وانتشرت الانتفاضات في بلدان عربية عديدة، حيث الحكام العرب سواسية، وإسقاط الرئيسين التونسي والمصري يوجب إسقاط الليبي واليمني والسوري، أما الأردني والبحريني فيحتاجان إلى إصلاحات والى صمت من بيدهم الأمر في الإعلام التحريضي، وهو ما حصل حتى الآن.

صناعة الرأي العام

لقد بدا أنّ إسقاط الرؤساء العرب صار ميسراً، لأنّ حماتهم الأميركيين أصيبوا بالضعف من جهة، وما عادوا مفيدين لهم من جهة ثانية. وكذلك، لأنّهم حكموا عكس إرادة شعوبهم زمناً ورغباتها طويلاً، وسدّوا آفاق التغيير في سلطاتهم. لكن أيضاً، لأنّ الرؤساء والملوك فقدوا، منذ سنوات، سيطرتهم على صناعة الرأي العام الذي صار يصنع في قناة الجزيرة والفضائيات الأخرى، التابعة لتركيا وإيران وبريطانيا وأميركا وفرنسا..إلخ، أو شبكات التواصل الاجتماعي. وفيما تراجع دور الأحزاب التقليدية في المعارضة، تقدم دور المنظمات غير الحكومية، الممولة معرفياً وقيمياً ومادياً، من الخارج، وكانت أشبه بـ«البنية التحتية المنظمة» للتحرك الشبابي على الشبكة الافتراضية، وعلى أرض الواقع. وقد زودت هذه المنظمات الشباب المنتفضين بالوسائل والتقنيات اللازمة، ومن بينها كتاب «من الدكتاتورية إلى الديموقراطية» للجامعي الأميركي الكهل جين شارب (83 عاماً) وهو أشبه بدليل عملي لكيفية تفكيك السلطة المطلقة. ويلاحظ أنّ هذا الكتاب تصدر لوقت طويل واجهة الموقع الإلكتروني للإخوان المسلمين.
إنّ فقدان الأنظمة العربية للقدرة على صناعة الرأي العام، راوح بين هذا النظام وذاك. ففي مصر وتونس، بدا مطلقاً بسبب انفصال النخبة عن النظام الحاكم. وفي اليمن، بدت المسألة محصورة في صنعاء وتعز، حيث نشطت المنظمات غير الحكومية بدعم خارجي كبير، وألّفت تياراً جديراً بالحماية، تولت القنوات الفضائية رفده على الدوام بدعم معنوي، دعم أدى بدوره إلى زيادة الاستقطاب من حوله، فيما ظلّ تأثير الوسائل الحديثة محدوداً في الأرياف، وفيها ظلّت قاعدة السلطة قوية ومخلصة، ولا تزال حتى اللحظة، الأمر الذي أدى إلى انقسام أفقي، من شأنه، إذا ما طال، تشطير البلاد إلى أقسام متناثرة، وبالتالي تخريب اليمن بدلاً من رعاية انتقال السلطة فيه بطريقة سلمية وتوافقية تحفظ وحدة البلاد واستقرارها النسبي.

زنقة العقيد

أما في ليبيا، فقد انقشعت فجأة الغيوم الكثيفة التي كانت تلفّ هذا البلد خلال أربعة عقود، وأخذ الرأي العام العربي والدولي، يكتشف للمرة الأولى أسماء المدن والبلدات الليبية التي حجبتها عن العالم صورة معمر القذافي الأحادية. لقد كان الليبيون في شرق البلاد الأكثر تضرراً من نظام العقيد، وبالتالي أول من ثار، بمن فيهم وزراء النظام وضباطه وجنوده. في المقابل، تردد الليبيون في الغرب، وربما انحاز قسم منهم إلى النظام، خوفاً من الانتقام أو خسارة مصالح تراكمت خلال العقود الأربعة الماضية.
وفي السياق، بادر ليبيو الشرق إلى الاتصال بالدول الأوروبية، ورفعوا العلم الملكي القديم، وطلبوا الحماية الغربية مع وعود جذابة بعقود نفطية، تذكّر الشركات الغربية الكبرى بما قبل التأميم الليبي للنفط، في سبعينيات القرن الماضي. هكذا، انعقد تحالف غير مقدس بين «الثوار» الليبيين والحلف الأطلسي، لإطاحة العقيد الليبي الذي كان قد أمضى الشطر الأعظم من العقد الماضي في إنجاز مصالحة باهظة الكلفة مع دول أطلسية. وكان يظن أنّ هذه المصالحة تتيح له حكم ليبيا إلى الأبد، متذرعاً بأنّه ليس رئيساً، بل مرشداً ثورياً يقرر في الواقع ما ينبغي ولا ينبغي في هذا البلد الغنيّ بموارده والفقير بنظامه السياسي.
لقد رسم تحالف الأطلسي مع الثوار في ليبيا السقف الذي تدور تحته «الثورة الليبية»، وقد يرسم سقف الثورات العربية الأخرى. فتلك الأخيرة موجهة نحو الداخل، وليست معنية بالنزاع مع الخارج، بما في ذلك إسرائيل، التي لم ترشق بشتيمة واحدة من معظم الثوريين في المدن والبلدان المنتفضة.
والواضح أنّ أولوية الداخل لدى «الثوار» تستدعي التفاهم مع الخارج، الأمر الذي يحيلنا إلى مقولة رددتها المعارضة العربية خلال السنوات الأخيرة من أنّ لها الحق في التخابر مع الأجنبي، ما دام الحكام يتخابرون معه، وأنّ الحاكم ليس أفضل من المعارض في هذا الصدد. يعني ذلك أنّ سقف المعارضة الثوري المزعوم، هو سقف النظام نفسه في التعاطي مع الأجنبي، بل ربما تكون علاقة المعارضة بالأجنبي أكثر دونية، لحاجتها الماسة للدعم والاعتراف بشرعيتها.
هنا تجدر الإشارة إلى أنّ الدكتور سمير جعجع قد أصاب عندما قال مفتخراً: إنّ العديد من المتظاهرين العرب ساروا على درب 14 آذار، التي عبدت بالتفاهم والتنسيق مع الولايات المتحدة. وقد ذهب أحد قدامى اليسار اللبناني إلى ابعد من ذلك، عندما ادعى أنّه صانع المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأنّ هذه الصنعة تتيح له التنسيق مع السفير الأميركي في بيروت، في المعركة من أجل «الديموقراطية وضد الاستبداد والوصاية السورية...»، على حدّ زعمه.

أولوية الداخل على الخارج

وإذا كان سقف الثورة في العالم العربي محكوماً بتغيير النظام لا التبعية للأجنبي الذي يحمي النظام ويدعمه، فيعني ذلك أنّ «الثوري» الوافد سيسير على نهج الحاكم المخلوع في علاقته مع الأجنبي، وبالتالي فإنّ حصيلة التغيير لن تمسّ جوهر الحكم وشروطه، بل شخصه أو أشخاصه. وفيما تبدو مصر الأكثر قدرة على تكوبن نظام جديد يحسن شروط التبعية للخارج، فإنّ ليبيا واليمن تكادان تسقطان في الخراب الأهلي الذي يستدرج التدخل أو الوساطة الأجنبية لمصلحة هذا الفريق أو ذاك، أي إدارة الخراب عن بعد، بانتظار مخرج يكرّس نظام الفئة الغالبة.
وفي سوريا، من المتوقع أن تتكثف جهود المناهضين للسيطرة على الحكم من الداخل، بعدما أخفقت محاولات الانقضاض عليه من الخارج. وقد يخفق هذا الهجوم كما أخفقت محاولة عام 2005، لكن المشكلة التي كانت قائمة بالأمس ولا تزال حتى اليوم، تكمن في إهمال النظام السوري لعناصر قوته السياسية وموجبات تفعيلها بوسائل لا تعتمد العنف والترهيب. فالأجهزة الأمنية قد تحمي النظام إلى حين، بينما الوسائل السياسية والفكرية التي يمكن النظام تفعيلها، قد تحميه في كلّ حين.
من جهة ثانية، اشترت دول مجلس التعاون الانتفاضة الشعبية البحرينية والتظاهرات العمانية الأولى، ببضعة مليارات من الدولارات، واشترت صمت شعوبها بمليارات أخرى. وهي تراهن على الخروج سالمة من موجة التغيير، وأن يكون ما بقي من العالم العربي الخارج من الثورات مفككاً في جزء منه، وبالتالي سلس القيادة والتوجيه والعمل تحت السقف الغربي. فهل هذا ما يريده شباب الثورة في البلدان العربية؟
ما من شك في أنّ الثوار الشباب في ساحات التغيير والحرية، يأملون مع فجر انتصار كلّ ثورة أن يحصلوا على الضمان الاجتماعي والصحي والمنحة الدراسية في الخارج، وأن تحظى المرأة الحامل بدار للحضانة بالقرب من منزلها، وأن يحوز متخرج الجامعة على وظيفة مرموقة، وأن يجمع الطبيب ثروة صغيرة ويحصل المهندس على مشاريع عمرانية. ويأملون أن تنمو هذه الفئات، كما تنمو الفئات البرجوازية الصغيرة في المدن الأوروبية، وأن يتاح الاختلاط بين الجنسين، حيث لا اختلاط، وأن تغرق الأسواق بالمواد الاستهلاكية وتفتح دور السينما والمسرح وصناديق الاقتراع على مصراعيها وتنهض ورشة صناعية وأخرى سكنية وثالثة زراعية وتنهمر مليارات الدولارات بعد رحيل الرئيس... هكذا يحلم المهمشون، ومن أجل تلك الأحلام يضحّون بأرواحهم. بيد أنّ هؤلاء سيكتشفون بعد حين، أنّ الثورة لا تعني الديموقراطية، وأن الجمهورية لا تعني الديموقراطية أيضاً، وأنّ الملكية الدستورية ليست جنّة الله على الأرض، وأنّ الديموقراطية كما تلوح من السوق الأوروبية هي ديموقراطية الأغنياء، وأنّها ما كانت يوماً ديموقراطية الفقراء، ابتداءً من روما القديمة وصولاً إلى فقراء المدن المهمشين في أوروبا.
ولا أدري في أي وقت سيكتشف الثوار الجدد أنّ العالم العربي سيصبح غنياً، أي قادراً على تأسيس البنية التحتية للديموقراطية، عندما يصبح سيداً على موارده ومصيره. فالتابع لا يراكم ثروة حرة، ويتبع سيده الأجنبي في أحواله المختلفة، فإن قال السيد الغربي إنّ ثمن برميل النفط يجب ألّا يعلو فلا يعلو، وإن قال السيد الأجنبي إنّ على التابع أن يشتري سلعاً غربية بأموال النفط يشتريها، بدل أن يصنع مثلها. وإن صنع، تعاقبه منظمة أوروبية تسهر على حقوق الملكية، ويعاقبه ابن جلدته، وكيل الشركة الأوروبية الحصري. ويعني ذلك أنّ على التابع أن يظل تابعاً، وعلى المنظومة العربية أن يعاد تشكيلها بعد الثورات، وفق شروط تبعية محسّنة على أن تكون جديرة بمواجهة إيران التي تطرق أبواب الغرب للخروج من التبعية، وطلباً للشراكة في المجالين الإقليمي والدولي.
بعبارة أخرى يمكن القول إنّ الشباب الثوريين الذين ضحّوا ويضحّون بأرواحهم من أجل التغيير الجذري، سيكون عليهم إذا ما أرادوا فعلاً أن تكلل ثوراتهم بالنجاح، أن يحرّضوا نظراءهم على الثورة في البلدان الثرية، وأن يتجاوزوا في حركتهم السقف الذي ترسمه الفضائيات العربية، وأن يطردوا القواعد الأميركية، ويطالبوا بالشراكة مع الغرب على الصعيد الدولي. وبالتالي، عليهم أن يطالبوا بأن تصبح بلدانهم شريكاً، لا تابعاً ثانوياً في العلاقات الدولية. وفي هذه الحالة فقط، يمكن العرب أن يراكموا الثروة وأن يغيّروا وجه عالمهم رأساً على عقب. وفي هذه الحالة، وفيها وحدها، يمكن أن تكتسب تضحيات الشباب الذين سقطوا في ساحات الحرية والتغيير قيمتها الحقيقية ومعناها التام.

* كاتب لبناني مقيم في باريس