إذا كنت تملك بطاقة هوية لشخص متوفى أو بطاقة هوية مزورة، يمكنك تزوير عقد إيجار واختراع اسم «شركة استيراد وتصدير»، تمهيداً لتسجيل الشركة في وزارة المال. وخلال 24 ساعة تحصل على شهادة تسجيل شركة، من دون أن يدقّق أحد، بالضرورة، في الوجود الفعلي لهذه الشركة في العنوان المذكور في الطلب، ولا في حقيقة العمل الذي تمارسه الشركة. بعد ستة أشهر من مباشرة الشركة عملها المفترض، يمكنها التقدم إلى وزارة المال بطلب استرداد للمبلغ المالي الذي تفترض أن شركتك الوهمية دفعته ضرائب على القيمة المضافة عند شراء المواد تمهيداً لتصديرها أو بيعها في السوق المحلي.
لا ترتبك، يتألف طلب الاسترداد من ورقة واحدة. ولاحقاً، خلال أربعة أشهر ـــــ إذا لم تدقّق الجهات المختصة في وزارة المال في صدقية الطلب أو واقعيّته ومن دون التأكد أقلّه من الوجود الفعلي لهذه الشركة ـــــ ستدفع وزارة المال المبلغ المالي الخيالي الذي أوردته في طلب الاسترداد، مع تعهّد وزارة المال بدرس الطلب لاحقاً.
هناك من لم يصدّق سهولة ما سبق في تحقيق الغنى غير المشروع، أو بمعنى آخر نهب المال العام. وهناك من صدّق، التزم بالتعليمات السابقة، تواصل مع الموظفين المعنيين بتسهيل العملية. وهذه حكايتنا التالية، حيث انفجرت في الأسابيع القليلة الماضية فضيحة في وزارة المال أساسها دفع الوزارة أكثر من مئتين وخمسين مليون دولار طلبات استرداد لشركات لم تقدم «أيّاً من المستندات اللازمة للتحقّق من صحة تصاريحه».


ما هو طلب الاسترداد؟

بعيداً عن لغة «قانون الضريبة على القيمة المضافة» الاقتصادية، يتيح القانون المذكور لنوع من المؤسسات (التصديرية والصناعية بمعظمها) أن تتقدم كل ثلاثة أو ستة أشهر بطلب استرداد كل ما دفعته من ضريبة على القيمة المضافة عند شراء أنواع خاصة من المواد التي تتاجر بها. ويلزم القانون وزارة المال ببتّ طلب الاسترجاع، سلباً إو إيجاباً، في مهلة أقصاها أربعة أشهر. وإذا وافقت الإدارة على طلب الاسترجاع، كلياً أو جزئياً، يعاد المبلغ المستحق للخاضع للضريبة، وإلا استحقت على المبلغ غير المدفوع فائدة بمعدل 9% بعد انقضاء أربعة أشهر على تقديم الطلب، وبالتالي يمكن كل صاحب شركة تنطبق عليه المواصفات القانونية المطلوبة أن يتقدم بطلب استرداد، فترسل وزارة المال مدقّقاً مالياً إلى شركته، يتأكد بداية من وجود الشركة ثم يتفحّص جميع السجلات والفواتير وبيانات الاستيراد والتصدير، ويحتسب الضرائب المستحقة للشركة عند الدولة، فإما يخلص إلى الموافقة على الرقم الذي أوردته الشركة في طلب الاسترداد أو يتبيّن وجود خطأ ويحدد لها الرقم المالي الذي يحق لها استرداده.
حتى عام 2005 كانت الأمور منضبطة نسبياً، مع تأكيد بعض المطّلعين أن الفساد في تلك المرحلة كان يعبر عبر منفذين أساسيين:
الأول، ترشو الشركة أحد كبار الموظفين في وزارة المال فلا يضع اسم الشركة على لائحة التدقيق الضريبي، ويدفع لها مباشرة طلب الاسترداد من دون تدقيق، مع العلم بأن لوزارة المال الحق في إرسال المفتشين إلى شركات معينة وإعفاء شركات أخرى، في ظل تبرير بعض الموظفين إعفاءهم بعض الشركات من التدقيق بضرورة احترام مهلة الأربعة أشهر، ولا سيما أن عدد المفتشين، كما تقول الوزارة، لا يكفي للتدقيق في جميع طلبات الاسترداد. كل ذلك من دون الأخذ في الاعتبار أن كلفة التدقيق الفعلي في طلبات الاسترداد أقل بكثير بالنسبة إلى المال العام من كلفة دفع طلبات الاسترداد من دون تدقيق في صدقيتها، فضلاً عن أن الوزارة غالباً ما تطلب التدقيق في طلبات الاسترداد المقدمة من المستشفيات والمؤسسات التي لا تبغي الربح على حساب التدقيق في شركات لم يسمع بها أحد تطلب استرداد مئات الملايين.
الثاني، ترشو الشركة المفتش الذي أرسلته وزارة المال إليها للتدقيق في السجلات، فيتبيّن له تطابق الضرائب على القيمة المضافة التي دفعتها الشركة مع الرقم الذي أوردته الشركة في طلب الاسترداد.


مأسسة الفساد

بدأ الإعداد للفضيحة الكبرى عام 2005. وفي موازاة تعيين لؤي الحاج شحادة (محسوب على تيار «المستقبل») رئيساً لمديرية الواردات في وزارة المال، ووائل خداج (محسوب على الحزب التقدمي الاشتراكي) مديراً للضريبة على القيمة المضافة، استُبدلت رئيسة دائرة المراقبة الضريبية والاستردادات ماريا نلبنديان (التي رُقّيت إلى منصب رئيسة مصلحة التشريع والسياسات الضريبية) ببهيج عيسى (محسوب على تيار «المستقبل»)، وعيّنت هدى صادق رئيسة لدائرة الالتزام الضريبي، وباتت طلبات التسجيل تقدم إلى المركز الإلكتروني حيث الكلمة لمن يطلق عليه البعض لقب وصيّ البنك الدولي على وزارة المال، أي نبيل يمّوت.
لم يكد هؤلاء يبدأون العمل تحت أنظار مدير وزارة المال آلان بيفاني (محسوب على التيار الوطني الحر)، حتى بدأ تصاعد الشائعات: أنباء عن تسهيل تسجيل شركات وهمية في مديرية الواردات، أخبار متفرقة عن تقديم الشركات الوهمية طلبات استرداد لضرائب وهمية في المركز الإلكتروني (الذي يرأسه نبيل يموت)، أنباء عن عدم طلب دائرة الالتزام الضريبي التدقيق في طلبات الاسترداد المقدمة من هذه الشركات رغم المبالغ الكبيرة التي تطلب استردادها، مقابل طلب التدقيق في طلبات استرداد شركات أخرى. وأخيراً، عمدت دائرة المراقبة الضريبية والاستردادات إلى إقرار دفع المبالغ للشركات. وكل ذلك تحت أنظار مديرية الضريبة على القيمة المضافة.
في هذه الأثناء، تضاعف عدد الشركات المسجلة، رغم التوتر الذي دفع شركات كثيرة إلى الإقفال، علماً بأن الشركة التي تتقدم بطلب استرداد هي شركة كبيرة، لا مجرد دكان أو حتى سوبرماركت. وعام 2007، ادّعى نبيل يموت، باعتباره رئيساً للمركز الآلي، أن نحو خمسين طلب استرداد قد ضاعت، فتقرر أن يدفع لأصحابها المبالغ التي يريدونها من دون تدقيق في صحة الأرقام التي أوردوها، لأن ضياع الملفات تتحمل مسؤوليته وزارة المال والتأخير في الدفع يرتّب فوائد على الخزينة. ولاحقاً، عام 2009، تذرّعت دائرة الالتزام الضريبي بالتضارب في المهل بين قانون الإجراءات الضريبية وقانون الضريبة على القيمة المضافة، لعدم إصدار لائحة بأسماء الشركات التي يفترض التدقيق في حساباتها قبل دفع طلبات الاسترداد لها، ودفعت طلبات الاسترداد من دون درس الملفات، فحصلت الشركات ـــــ الوهمية وغير الوهمية ـــــ على الأرقام المالية التي أوردتها في طلبات الاسترداد من دون تدقيق، سواء في حقيقة الشركة أو في حقيقة قيامها بالعمل الذي تدّعيه أو في صحة الأرقام التي تطلب استردادها.


سرقة موصوفة

ما قيل إنه شائعات ثبتت حقيقته بعد أن دفع الفضول أحد الموظفين إلى الاتصال بإحدى شركات الكمبيوتر التي لم يسمع بها أحد في مجال عملها وتتقدم رغم ذلك بطلبات استرداد خيالية (تجاوزت قيمة أحد الطلبات ثلاثة عشر مليار ليرة)، فتبيّن أن أرقام الهواتف التي أوردتها الشركة في طلب التسجيل ليست صحيحة، وكذلك عنوانها وعناوين الموردين، وبالتالي فإن الشركة والموردين وهميّون.
أمام الضجة التي أثارها الموظف، اضطر المسؤولون إلى أن يحيلوا ملف الشركة على النيابة العامة المالية، الأمر الذي أربك أحد الموظفين الخمسة الكبار المسؤولين عن الإدارات المعنية، في ظل خشيته من أن يلبّس الملف كله نتيجة التوتر المستجد بين مرجعيّته السياسية ومرجعية الموظفين الأربعة الآخرين، فلجأ إلى وزيرة المال في حكومة تصريف الأعمال ريّا الحسن ليشتكي ممّا يحصل في دائرة الاسترداد التابعة للضريبة على القيمة المضافة منذ أكثر من خمس سنوات، ويعترف للوزيرة بوجود شركات وهمية تقبض طلبات استرداد.
عندها تفتّحت العيون المغلقة في وجهي وزيرة المال ريا الحسن والمدير العام آلان بيفاني، واكتُشفت واحدة من الشركات التي كانت قد باشرت عملها في الشهر الأول من عام 2010، وهي قبضت من وزارة المال بعد ستة أشهر فقط مبلغاً على أساس أنه استرداد، وقد تجاوزت قيمته ثلاثة ملايين دولار. وهناك شركة أخرى تقدمت في 12/7/2010 بطلب استرداد تبلغ قيمته 812 مليون ليرة، تبيّن ضرورة تحويله على الدرس، لكن سرعان ما دُفع مباشرة ومن دون درس «بسبب تضارب المهل (بين قانوني الضريبة على القيمة المضافة والإجراءات الضريبية) في تنفيذ عمليات التدقيق التي قد تؤدي إلى تجاوز للمهل التي حددها قانون الضريبة على القيمة المضافة لإنجاز طلبات الاسترداد، ما يرتّب فوائد تأخير على الخزينة»، على أن «يدرس الطلب لاحقاً لعدم ترتيب فوائد تأخير على الخزينة». وبالتالي، وافقت وزارة المال على دفع 812 مليون ليرة من دون تدقيق، بدل أن تدفع نحو 800 ألف ليرة لمحاسب يدقق في حسابات هذه الشركة.
وبعد انكشاف الفضيحة، عجز صاحب الشركة، الذي سبق أن قبض الاسترداد، عن إحضار أيّ من المستندات اللازمة للتحقّق من صحة تصاريحه والمبالغ التي استُردّت سابقاً. وفي 16 شباط الماضي صدر قرار بضرورة استرجاع الاسترداد، وطلب المدير العام لوزارة المال إحالة المؤسسة (مسجلة باسم إبراهيم أحمد عبد الله) على النيابة العامة المالية لإجراء المقتضى القانوني بشأنها.
حال هذه المؤسسة من حال مئات المؤسسات الأخرى. فأمام هيئة القضايا في المديرية العامة لوزارة العدل ملفات مكدّسة، حصلت «الأخبار» على عدة نسخ منها، بينها واحد يخصّ شركة «أوف ست ديفيجين» التي تقدمت في 7/7/2010 بطلب استرداد مليار و311 مليون ليرة عن النصف الأول من عام 2010. وبحجة عدم تناسق المهل بين قانوني الضريبة على القيمة المضافة والإجراءات الضريبية، جرت الموافقة على طلب الاسترداد، ودُفع للشركة المبلغ الذي تطلب استرداده، على أن يدرس لاحقاً الملف لعدم ترتّب فوائد تأخير على الخزينة. لكن بعد انفضاح الخلية السارقة للمال العام، صدر أمر بدراسة استرداد شركة «أوف ست ديفيجين»، فعجزت الشركة عن تقديم أيّ من المستندات اللازمة للتحقق من صحة تصاريحها والمبالغ التي استُردّت لاحقاً.
أما مؤسسة عباس خضر حيدر أحمد، فحصلت على استرداد بقيمة 791078500 ليرة بالطريقة نفسها، بينما حصلت مؤسسة فؤاد إبراهيم الحجار على نحو 961 مليون ليرة ومؤسسة TT لصاحبها أمين أيوب نصراني على قرابة 686 مليون ليرة، جميعهم من دون تدقيق، بحجة التضارب في المهل، ولعدم ترتيب فوائد تأخير على الخزينة.
وقد ثبت للمفتشين أن بعض الشركات التي قبضت استرداداً هي بالفعل شركات وهمية، لا يمكن القضاء معرفة مؤسّسيها الحقيقيين، لأن من أسّسها قدم إلى مديرية الواردات بطاقة هوية مزورة أو بطاقة هوية لأشخاص متوفين، وعقد إيجار مزور، وبالتالي لا يمكن أحداً معرفة من قبض الاسترداد.


من يتحمّل المسؤولية؟


بعد انكشاف ما حصل، تحاول إدارة وزارة المال التي تتكتّم بشدة على الفضيحة، معالجتها، من دون المس بالموظفين الذين يفترض أنهم يتحمّلون المسؤولية المعنوية على الأقل عمّا حصل، وخصوصاً أن نفوذ أحد هؤلاء الموظفين أكبر من نفوذ الوزيرة، وهو كان يرشدها إلى كل ما يجب عليها القيام به، ووتقتصر معالجة الفضيحة حتى الآن على التدقيق في طلبات الاسترداد المقدمة منذ عام 2003، في ظل تأكيد بعض الموظفين في وزارة المال استحالة استرجاع ما صرف لشركات وهمية أو لأشخاص حقيقيين غادروا الأراضي اللبنانية وفي حقائبهم مبالغ خيالية من المال العام، وبالتالي ضرورة محاسبة المسؤولين عن:
ـــــ أولاً، تسجيل مديرية الواردات شركات وهمية من دون تدقيق.
ـــــ ثانياً، عدم التزام دائرة الالتزام الضريبي بمعايير واضحة تحدّد تدقيق المفتشين في طلب استرداد على حساب آخر.
ـــــ ثالثاً، حصول هدر للمال العام يتحمّل مسؤوليته في نهاية الأمر وزراء المال المتعاقبون منذ عام 2005، المدير العام لوزارة المال آلان بيفاني، مدير الضريبة على القيمة المضافة وائل خداج ورئيس دائرة المراقبة الضريبية والاستردادات بهيج عيسى.



فرع معلومات المال

رغم النفوذ الاستثنائي لتيار المستقبل في وزارة المال، لم يستثنها من خطة إنشائه إدارة خاصة بديلة من الإدارة الرسمية في المؤسسات الحيوية، فاستحدث في «المال» ما يعرف بالمركز الآلي، الذي يوصف وسط المطلعين على دوره بفرع معلومات المال، نسبةً إلى فرع المعلومات في المديرية العامة للأمن الداخلي. ففي موازاة تحوّل فرع المعلومات إلى خزان للمعلومات الأمنية التي يمكن أن تهم المستقبل في يوم من الأيام، وأدّى الفرع دوراً أساسياً في حياة المستقبل السياسية؛ تحول المركز الآلي الذي يرأسه نبيل يموت (الصورة) إلى خزان للمعلومات المالية والاقتصادية التي يمكن أن تهم تيار المستقبل، وأدى المركز دوراً أساسياً في حياة المستقبل السياسية.
كيف؟ تخزّن في المركز الآلي، الذي تعد سيطرة المستقبل عليه أكبر من سيطرة المستقبل على فرع المعلومات، تصاريح المكلفين وبيانات الشركات. ولموظفيه الحق الحصري في الاطلاع على مختلف أنواع الجداول. فتتبين الشركة الناجحة من المتعثرة، والملتزم بدفع ضرائبه من المتهرب منها، ليتمكن المستقبل من الضغط سواء على المتعثرين أو المتأخرين عن تسديد الضرائب، في ظل اتهامات للمركز الآلي بتعديل بعض الحسابات المالية، وغض النظر عن الضرائب المستحقّة على بعض الشركات، إرضاءً لأصحاب هذه الشركات سياسياً أو مادياً.