للوهلة الأولى، تظهر علامات التشذيب على مواد القانون المقترح، من وزير العمل، في حكومة تصريف الأعمال، بطرس حرب. في الأصل، اقتراح قانون «تنظيم العمل اللائق للعاملين في الخدمة المنزلية» قد يعد بمثابة إضافة هجينة إلى قانون العمل الأصلي. أحياناً، تبدو الإضافات أشبه بالترقيع. والحديث عن ترقيع هو تلطيف أيضاً. ففي آخر دراسة عن وضع العاملات الأجنبيات في لبنان، أعدّتها منظمة «هيومن رايتس واتش» في أيلول 2008، تركّزت الشكاوى من العاملات على ظروف العمل، مثل ساعات العمل، وأماكن المعيشة، والحرمان من الطعام.
لكن، المادة الثانية من القانون المقترح لم تلحظ ذلك، إذ اكتفت بضرورة تحديد ساعات العمل وفترات الراحة، في عقد العمل، الخاص بالعامل في الخدمة المنزلية، من دون أن تشير إلى الحد الأدنى، أو الأقصى، لهذه الفترات.
هنا، من المفيد الاطلاع على الدراسة الأخيرة مجدداً. فمن أصل 154عاملة فيليبينية موجودة في ملجأ السفارة الفيليبينية في 1 كانون الأول 2009، ذكرت 24 عاملة أنهن «هربن» لأنهن كن يعملن أكثر من طاقتهن، و8 بسبب الظروف السيئة، مثل عدم كفاية الطعام أو رداءة المكان المخصص لهن. وهذا كله لم يحدَّد في مشروع القانون. ففي المادة الخامسة، من مشروع القانون عينه، ينبغي لرب العمل أن يوفّر للعامل (وهي عاملة في معظم الحالات) «المأوى الذي يتمتع بالمساحة والتهوية والإضاءة الملائمة لكرامة العامل». طبعاً، بلا تعريف للمساحة ولا أي شيء آخر. القانون ترك حرية التقدير لرب العمل. وفي لبنان هذا خيار كارثي عموماً.
وفي ما ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أنّ لكل شخص الحق في الراحة وأوقات الفراغ، بما في ذلك الحق في عدد معقول لساعات العمل وفي إجازات دورية مدفوعة الأجر، إضافةً إلى الحق في أجر عادل لضمان «عيش لائق بالكرامة البشرية»، تضرب المادة التاسعة من قانون حرب جميع هذه الاعتبارات بعرض الحائط. هكذا، يحق للعاملة 9 ساعات راحة ليلية (على الأقل)، على أن يمنع أن تعمل أكثر من 10 ساعات يومياً، وتالياً، يتيح النص لصاحب العمل التلاعب بين ساعات العمل، وساعات الراحة، على قاعدة الأولوية التي يرتئيها، إذ شملت المادة عينها جملة مفخّخة في النهاية، مفادها أن هناك «حالات استثنائية قد تعمل العاملة فيها ليلاً». صحيح أن هذه المقترحات أفضل بكثير مما هي الحال عليه الآن، وأن المشروع يجهد لكي يبدو وسطياً بين ما يصفه الناشط الحقوقي، نديم حوري، بالذهنية العامة التي لا تتفهم حقوق العاملات، والحقوق البديهية لهن، وصحيح أيضاً، أن القوانين تبقى في ظاهرها عامة، ويترك للقضاة تفسيرها، لكن، عندما تقرأ المادة الـ12، تظهر فجوة عميقة، بين العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي انضم إليه لبنان عام 1972، و«الإنجاز» القانوني لحرب. الحقوق التي يكفلها العهد الدولي، توجب الاعتراف بحق جميع الأشخاص في ظروف عمل عادلة ومواتية. وفي المادة الـ12 لا عدل ولا من يعدلون، ولا مؤاتاة ولا ما يؤاتون، إذ تنص صراحةً على أنّ لكل عامل منزلي «الحق في إجازة سنوية لا تقل عن 6 أيام متواصلة مدفوعة الأجر، ويحدد توقيتها بالاتفاق بين الطرفين. ويحق له (العامل/ة)، بالاتفاق مع صاحب العمل، أن يراكم إجازته السنوية لمدة سنتين». وهذا لا يحتاج إلى شرح كثير. سنتان للوصول إلى 12 يوماً، وهي تبقى مدة أقل من المدة التي يحصل عليها العامل عادةً (15 يوماً) في العام الواحد. كل عاملتين في المنزل بعامل خارجه. أنصاف عمال، هكذا تبدو القاعدة في المادة الـ12.
الأهم من ذلك، أن الأجرة غير واضحة. وفي المادة الـ15، يشير النص إلى أن الأجر الذي يتقاضاه العامل في الخدمة المنزلية، يحدَّد باتفاق الطرفين. كأنّ الدولة ارتأت أن لا تتدخل هنا ممّا لا يبقي خيار الحد الأدنى للأجور قيد التدنّي إلى درجة مرعبة. وطالما أن قانون العمل اللبناني، الصادر عام 1946، يستثني عاملات المنازل، سواء كن لبنانيات أو أجنبيات، من أحكامه، يعني هذا الاستثناء أن عاملات المنازل المهاجرات لا يتمتعن بحماية الحد الأدنى للأجر الشهري في لبنان، الذي هو 500 ألف ليرة لبنانية، وهو ما لم يحدده المشروع الجديد، كما كانت المنظمات الحقوقية تتوقع. ولحظت دراسة «هيومن رايتس واتش»، أن استبعاد عاملات المنازل من قانون العمل اللبناني يبدو أمراً محايداً في تركيزه على شكل من أشكال العمالة، وقد لا يكون بنيّة تمييزية. هذا ظاهرياً. فالفصل بين العاملات المنزليات والعمال الآخرين، يحمل أثراً سلبياً غير مناسب على المرأة، إذ إن الأغلبية الساحقة من العاملين في الخدمة المنزلية (97%) هن من الإناث، وفقاً لإحصائيات وزارة العمل اللبنانية. وبناءً عليه، فإن الحماية الأقل، التي تشمل العمل المنزلي، تعكس تمييزاً ضد شكل من أشكال العمل تنجزه عادةً النساء، ويتضمن مهمّات مرتبطة بالأدوار التقليدية المحلية للنساء، مثل التنظيف ورعاية الأطفال والطبخ. وحتى الآن، لم يقدّم لبنان، رسمياً، أيّ سبب مشروع لتبرير استبعاد عاملات المنازل من أحكام قانون العمل، بل على العكس، جاء مشروع حرب ليثبّت هذا التمييز. وإذ حاول النص القانوني استخدام مصطلح «العامل في الخدمة المنزلية» لأسباب لغوية عامة، فإن هذا لا يعفيه من الحقائق، إذ يتعارض مشروع القانون مع اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، التي انضم إليها لبنان عام 1997. الاتفاقية المذكورة توجب على الدول الموقّعة ضمان «الحق في المساواة في الأجر بين الرجل والمرأة، بما في ذلك الاستحقاقات، والحق في المساواة في المعاملة في ما يتعلق بالعمل ذي القيمة المساوية». اللافت في الموضوع، أن لجنة القضاء على التمييز ضد المرأة، وهي المكلفة مراقبة امتثال الدولة الطرف التزاماتها بموجب الاتفاقية، عبّرت عن «قلقها إزاء سوء معاملة النساء العاملات واستغلالهن في العمل المنزلي في لبنان»، وأوصت لبنان بـ«وضع إجراءات لمراقبة وحماية حقوق النساء العاملات في المنازل، ومقاضاة ومعاقبة أرباب العمل المسيئين على النحو المناسب». ودعت لبنان إلى «مدّ عاملات المنازل بسبل انتصاف ناجعة ضد إساءة المعاملة من جانب أرباب العمل».
هكذا، لا يبدو مشروع حرب منصفاً بالنسبة إلى الكثيرين من الناشطين الحقوقيّين. في رأي هؤلاء، الحماية غير المتكافئة، ليست حماية مناسبة، بل يرون أن «عزل عاملات المنازل عن قانون العمل الوطني اللبناني يمثّل تمييزاً غير مسموح به على أساس الجنس، فضلاً عن الأصل القومي، على اعتبار أن الغالبية العظمى من عاملات المنازل في لبنان أجنبيات». طبعاً، لم يستخدم مشروع القانون مصطلحات تميّز جندرياً، أو قومياً، وحاول قدر الإمكان تشذيب العنصرية اللبنانية التي تواجَه بها العاملات... وفقاً للإحصاءات. للتذكير: أصدرت «هيومن رايتس واتش» دراسةً أخرى في آب 2008، تظهر أن عاملات المنازل المهاجرات كن يلقين حتفهن بمعدل أكثر من واحدة في الأسبوع في لبنان. لم يقل مشروع القانون إنهن أقل من اللبنانيين، لكنه ببساطة، وبالنظر إلى قضايا تدخل في صلب الهوية السوسيولوجية والاقتصادية للعامل، وتركيبته كجزء من المجتمع، مثل العطلة والأجر والتعويض، عاملهن على هذا الأساس. عطلتهن أقل، راتبهن أقل، وتالياً، هن أقل من العمال الآخرين. وإذا لم تكن هذه هي العنصرية بعينها، فإن شيئاً آخر لن يكونها.



«نصف قانون» لعاملات %66 منهن يأكلن بقايا الطعام

في موازاة النقد الذي تعرّض له مشروع قانون الوزير بطرس حرب (الصورة)، المتعلق بتنظيم «العمل اللائق للعاملين في الخدمة المنزلية»، من بعض الناشطين الحقوقيين، أبدى عدد من هؤلاء رضاهم عن المشروع، بوصفه خطوة أولى. الناشط في منظمة «هيومن رايتس واتش»، نديم حوري، مثلاً، أكد أنه يعارض الكثير من المواد التي جاءت في القانون، لكنه في الوقت عينه، يرى فيه «خطوة إيجابية لتحسين العلاقة بين العاملات وأرباب العمل وتنظيمها، وأنه نصف الطريق». وفي هذا السياق، أشارت ناشطة أخرى، في إحدى الجمعيات المهتمة بقضايا المرأة عموماً، إلى أنّ «العاملات بحاجة إلى غطاء فوري وسريع، ومشروع الوزير حرب قد يوفر هذا الغطاء، عوضاً عن انتظار تغيّر الذهنية اللبنانية من تلقاء نفسها». وبالحديث عن الذهنية اللبنانية، تظهر دراسة «هيومن رايتس واتش» شهادات مؤلمة للعاملات. إحداهن، في معرض حديثها عن الإذلال الذي كانت تواجهه، مُنعت من استعمال الثلاجة. قالت لها مشغّلتها: هذا الطعام لسيدك. أنت تأكلين الأرزّ. 66% من العاملات اللواتي شملتهن الدراسة، اشتكين من أنهن كن يُطعَمن معظم الأوقات بقايا الطعام، ولم يملكن حرية تناول الطعام عندما كنّ جائعات. فهل تكفي «أنصاف القوانين» لقتل ذهنية الرجل الأبيض؟