غسان ديبة إن أحد الأوجه الإيجابية للأزمة المالية الحالية في النظام الرأسمالي العالمي هو «الصدام» الحاصل بين بعض القوى السياسية، في الولايات المتحدة الأميركية كما على المستوى العالمي، من جهة، والطبقة الاقتصادية ـــــ المالية التي سيطرت على الأسواق والاقتصادات في الدول المتقدمة والنامية على مدى ثلاثين عاماً، من جهة ثانية. وقد جاءت دعوة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى قيام نظام مالي جديد، وإعلان الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف عن نهاية الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي، ورفض مجلس النواب الأميركي لخطة وزير الخزانة الأميركي هنري بولسون لإنقاذ المؤسسات المالية المتعثرة... لتفتح بدايات هذا الصراع، الذي سيكون، بلا شك، صراعاً مريراً بين توجّه اقتصادي ـــــ سياسي جديد يقوم أساساً على كسر هيمنة الأسواق المالية، وبين فكر إيديولوجي نيوليبرالي مسيطر على العالم منذ انتهاء فترة الكينزية في السبعينيات.
فهيمنة الأسواق المالية والنيوليبرالية أعادت العالم إلى نوع من الرأسمالية المنفلتة من كل ضوابط تنظيمية وسياسية ومؤسساتية... شبيهة برأسمالية القرن التاسع عشر ورأسمالية سنوات ما بين الحربين العالميتين، مما أدى إلى تسارع في وتيرة الأزمات المالية والاقتصادية: من الركود المفتعل من جانب البنك المركزي الأميركي في أوائل الثمانينيات، مروراً بأزمة الأسواق المالية عام 1987، وأزمة المكسيك عام 1995، والأزمة الآسيوية عام 1995، والأزمة الروسية عام 1998، وأزمة الأسواق المالية في الولايات المتحدة عام 2000، وأزمة الأرجنتين عام 2002، وصولاً إلى الأزمة الحالية التي تهدد العالم بكساد عظيم شبيه بفترة الثلاثينيات.
كانت لهذه الأزمات المتتالية تأثيرات كبيرة على الاقتصاد الحقيقي لجهة النموّ والتوظيف في جميع أنحاء العالم، والأمثلة على ذلك كثيرة: ففي الولايات المتحدة نفسها ساء توزيع الدخل، وتركّزت الثروة أكثر فأكثر في أيدي القلة، ووجد الكثير من الأميركيين أنفسهم خارج المقدرة على الاستفادة من أنظمة التعليم والصحة. وفي أميركا اللاتينية، تأخر النمو الاقتصادي وزادت معدلات الفقر وساء توزيع الدخل في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، كما حصل الشيء نفسه في إندونيسيا والفيليبين وتايلاند بعد الأزمة المالية الآسيوية. وفي هذه الفترة أيضاً، ازدادت سطوة صندوق النقد الدولي على الدول النامية، وأصبح ما سُمِيّ «توافق واشنطن» بمثابة الدستور الاقتصادي لهذه الدول.
حدث هذا كله، في الوقت الذي تلقّت فيه القوى السياسية المواجهة لهذه الإيديولوجيا والسياسات المهيمنة ضربة كبيرة مع انتهاء فترة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، إذ بدا أن البدائل لهذا النظام العالمي الجديد مهزومة، حتى الإصلاحية منها التي كانت تمثّلها الأحزاب الديموقراطية الاجتماعية في أوروبا، ولا سيما بعد فشل السياسات الاقتصادية في عهد الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، وبالتالي التحاق أكثر هذه الأحزاب بركب النيوليبرالية العالمية، وإن غُلّفت السياسات الجديدة لهذه الأحزاب بإيديولوجية «الطريق الثالث» التي أثبتت فشلها وتوارى الداعون إليها عن الأنظار منذ فترة طويلة.
في خضم هذا المشهد السياسي القائم، بدأت البدائل السياسية لهذه الهيمنة تظهر في أميركا اللاتينية، وبشكل غير متوقع، حيث مثّلت هذه القارة المختبر الرئيسي للنيوليبرالية، ولا سيما في التشيلي والأرجنتين والبرازيل وغيرها من الدول... فبعد سقوط الديكتاتورية العسكرية في التشيلي عام 1990 (منذ ذلك الوقت انخفض معدل الفقر من 40% إلى 14% عام 2006!) مروراً بانتخاب لولا في البرازيل وتشافيز في فنزويلا وصولاً إلى صعود اليسار إلى السلطة في الأرجنتين والإكوادور والأوروغواي ونيكاراغوا والباراغواي وبوليفيا... بدأت المواجهة السياسية مع النيوليبرالية تتبلور على المستوى العالمي. واليوم مع انضمام قوى سياسية معتدلة في أوروبا إلى هذه المواجهة وبدء تكوّن وعي سياسي وشعبي في الولايات المتحدة الأميركية معادٍ لسياسات السوق الحرة وسيطرة «وول ستريت» على الاقتصاد الأميركي يُمكن إعلان النهاية السياسية لحقبة ريغان ـــــ تاتشر.
لكن هذه التحولات لا تزال مهدّدة بالتراجع إذا لم تؤدِّ إلى إحداث تغييرات جذرية على النظام الاقتصادي ـــــ المالي العالمي شبيهة باتفاقيات «بريتون ـــــ وودز» التي أسست لإمكان نجاح السياسات الماكرو ـــــ اقتصادية الكينزية منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى السبعينيات. فخطة بولسون تحاول إنقاذ الأسواق المالية والمؤسسات المتعثّرة على حساب الشعب الأميركي، في ما سمّي «اشتراكية الأغنياء»، من دون إصلاحات حقيقية، كما أن المصرف المركزي الأوروبي وسياسته المحافظة يقفان عائقاً أمام أي تقدم في أوروبا على مستوى الإصلاحات الجذرية، وأخيراً فإن صندوق النقد الدولي سيمثّل العائق الأساسي على المستوى العالمي أمام أي توجه نحو إقامة نظام مالي عالمي جديد، وبالتالي فإن المعركة السياسية القادمة ستكون قاسية، بل قاسية جداً، وستتطلّب تعاوناً كبيراً بين أميركا اللاتينية وأوروبا وروسيا والصين (التي على الحزب الشيوعي الحاكم فيها أن يستغل الأزمة لتعزيز دوره الأممي) وربما الإدارة الديموقراطية في الولايات
المتحدة.