كانت لافتة تلك الملصقات الإلكترونية التي ربطت، من باب التشفي، بين اعتقال ميشال سماحة في 9 الجاري واعتقال سمير جعجع في 21 نيسان 1994. مستذكرة إعلان سماحة يومها ــــ بصفته وزيراً للإعلام في حكومة رفيق الحريري ــــ حلّ القوات اللبنانية في 23 آذار من ذلك العام. غير أن التدقيق في سياقات الحدثين، يظهر عوامل كثيرة مشتركة بينهما، تتعدى غريزة الثأر، إلى ما هو الأخطر في القضية الراهنة.
ففي النصف الأول من التسعينيات، كان الكونسورسيوم الأميركي ــــ السعودي ــــ السوري قد احتل لبنان. وكان، عبر الذراع السورية، قد أسقط سلطته التنفيذية كما العسكرية في 13 تشرين الأول 1990. وكان كذلك قد ابتلع سلطته التشريعية عبر مسخرة انتخابات سامي الخطيب سنة 1992. لكن مع ذلك، لم تكن الأمور قد استتبت له بالكامل. فكان هناك بعد إعلام وقضاء، وكانت هناك بكركي وسياديون تكوكبوا حولها. في تلك الأجواء، تحرّكت يومها الأوضاع الإقليمية، مع ما سُمّي «وديعة رابين»، فتعزز التلاقي بين ثلاثي الكونسورسيوم المذكور، وباتت المناخات أكثر جهوزية لاستكمال وضع اليد على لبنان. فجأة، انفجرت كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل في 27 شباط 1994. وفجأة بدا أن تركيبة الكونسورسيوم جاهزة بالكامل للاستثمار. اعتقل سمير جعجع، وقبله ومعه وبعده آلاف من السياديين من كل التيارات. وانطلقت المرحلة الأخيرة من استكمال الاجتياح، عشية زيارة للبابا إلى بيروت!
يومها لم يكن المدافعون عن جعجع مؤمنين ببراءته. حتى بكركي لم تكن من هؤلاء، و«المجالس بالأمانات». فيما دوري شمعون لم يكن يثق إلا بكلام منير حنين. وحتى ميشال عون العارف بجعجع، وقف مدافعاً عنه. وكان ذلك لسببين: أولاً، لأن استهداف جعجع جاء تطبيقاً لاستنساب فاضح في فتح الملفات. علماً بأن العدالة الانتقائية لا تحمل من مفهوم العدالة إلا ما يحمله «الكرسي الكهربائي» من مفهوم الكرسي. وثانياً، لأنه ظهر سريعاً أن المقاضاة لم تعد لشخص قد يكون مرتكباً، بل لجماعة كاملة.
ولم يتأخر المخطط لتكريس الكونسورسيوم وتأبيد منافعه. خلال أسابيع قليلة ارتكب مرسوم التجنيس، الذي استورد مئة ألف مجنس من مذهب معين، و«وطّن» نحو 30 ألف فلسطيني من المذهب نفسه. ثم سُرق قلب بيروت بـ 1.6 مليار دولار أميركي فقط، استردت فوراً بعد أسابيع، لتصير قيمتها اليوم عشرات المليارات المختلسة من قبل الجهة نفسها. ثم سُرق قطاع عام أساسي للبنان، هو قطاع الخلوي المقدر بمليارات أخرى، بمحاصصة مع آل خدام (المطلوب جنبلاطياً إعادة الاعتبار لهم اليوم) ومع عائلات الخدم الآخرين. وسُرق قطاع عام آخر، هو الإعلام، بعدما وزعه ثنائي الحريري ــــ كنعان وفق معادلة زبائنية لا تزال سارية المفعول حتى اليوم. ورفعت الفوائد المصرفية على الليرة، فحُققت أرباح بعشرات مليارات الدولارات...
كل ذلك جرى تحت هالة من التهويل والإرهاب على جماعة كاملة بالقول: أنتم مجرمون، لا يحق لكم الكلام. أنتم من تدّعون حماية المسيحيين فجرتم الكنيسة.
السيناريو نفسه يبدو معدّاً في «كمين ميشال سماحة». ليس مقاضاة شخص فيما لو كان متورطاً، بل استهداف أكثر من نصف اللبنانيين. المطلوب القول لنا: أنتم مجرمون، فلا يحق لكم المناقشة في قانون الانتخابات النيابية، ولا يحق لكم المشاركة حتى في استحقاقها. أنتم مجرمون فلا يحق لكم مقاربة الاستحقاق الرئاسي سنة 2014. نحن من يقرر فيه، تماماً كما قرر الحريري وخدام ذبح الدستور سنة 1995، بعد أشهر على «تجريم» كل المسيحيين، والتمديد لالياس الهراوي الذي غطى اعتقال جعجع ونوّه وأثنى. قبل أن تلتحق «الست منى» بتظاهرة 14 آذار. تماماً كما هناك اليوم رئيس ينوّه ويثني قبل سنة من «استحقاقه». المطلوب أن يقال لنا: أنتم مجرمون، فلا يحق لكم أن تسألوا عما يحصل من حولكم. لا عن مغزى قول قائد «الثورة السورية» في باب الهوا، محمد الصنصاوي، إنه عندما سينتصر «سنقيم دولة إسلامية من سوريا إلى لبنان، حيث الكازينوات والعاهرات»، وإن قاعدة حكمه ستكون واضحة: «من يخضع يسلم، والآخرون يقتلون». المطلوب تجريمنا مسبقاً وجماعياً حتى لا نسأل عن علاقة أبطال «المجلس الوطني السوري» بالاستخبارات الأميركية، كما كشف تحقيق مذهل لصحيفة «غارديان». المطلوب تجريمنا حتى لا ننتفض لقول محمد مهدي عاكف، المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين: «إن من لا يقبل الحكم الإسلامي طزّ فيه». المطلوب من «كمين سماحة» أو «كمين الكفوري» أن نصير كلنا مجرمين ذاتياً، وأن نسكت مرة ثانية. وأن يتكرر السيناريو نفسه، مرة أولى لتكريس الكونسورسيوم بوصاية سورية، ومرة ثانية لتكريسه بوصاية وهابية.
ما العمل؟ يكفي في وجه كل أصحاب قصر النظر أو كثرة البطر، وفي وجه كل المصابين بوفرة الغباء أو ندرة الوفاء، أن يظل صوت واحد يصرخ: أنا لست مجرماً، أنا أرفض، أنا لن أسكت.
5 تعليق
التعليقات
-
طائفية فاقعة في جريدةطائفية فاقعة في جريدة المقاومة؟
-
الى متى السكوتلن يكون بعد اليوم فريق مسيحي قوي ومتوازن مع الاخرين في لبنان .يوم ايد سمير جعجع اتفاق الطائف من اجل الخلاص من العماد عون. وهذا ما حصل بعد نفي الجنرال الى فرنسا ضعف الفريق المسيحي .عذرا على الكلام الطائفي ولكنها الحقيقة التي اشعر بها على الاقل شخصياً. وحتى لا يكون جعجع الشخص القوي وهو المسيحي .رتبت له القصة وادخل السجن فبات المسيحيون الاضعف في ذلك الحين .عاد العماد عون من الخارج رغم المعارضة التي وقفت بوجهه وهي بالطبع من الفريق الاخر. فارادوا تحجيمه ولكنهم فشلوا بعد ان فاز في الانتخابات النيابية حين قال البطريرك صفير ان المسيحيين اختاروا زعيمهم .وعندما اخرجوا جعجع من السجن لم يخرجوه محبة به بل ليعودوا الى تفرقة المسيحيين .وهذا ما حصل بالفعل عندما عدل البطريرك موقفه من عون و تحالف جعجع مع حزب الله انتخابياً .فتفرق المسيحيون وتشتتوا فباتوا ضعفاء لانهم ما زالوايهاجمون بعضهم بعضاً ويلقون التهم جزافاً ودون مبرر. فلم يدعم اي فريق منهم فريقاً ولو من اجل المصلحة العامة والمشتركة. ولم ولن يتعلموا من تجارب الماضي ولا من الرئيس ميقاتي على الاقل الذي لم يفرط ولم يحاسب ولم ينقل اي موظف سني من مكان الى اخر .واظهر بممارسته الحرص على الفريق السني القوي حتى لا يضعف امام الاخرين .فمتى تفهمون اين هي مصلحة المجتمع المسيحي دون تعصب طائفي ودون ممارسة النكايات والمصالح الرخيصة والخاصة ....
-
الاصبع على الجرحلا اريد الا ان اثني على مقالتك وواقول بانط وضعت اصبعك على الجرح وفي المكان الصحيح .الله يسترنا من الجاي لانه كتير كتير خطير وعظيم
-
أنا لست مجرماً، أنا أرفض، أناأنا لست مجرماً، أنا أرفض، أنا لن أسكت
-
طلبرجاء خاص أستاذ جان خلي الأستاذ إبراهيم الأمين يقرا المقال منيح, وإن كان هناك ملاحظات مثلا في خضم سرد الأحداث في المقال يكاد القارئ أن يتعاطف مع سمير جعجع, وإن كنا نوافق على أن محاكمته من قبيل "العدالة الإنتقائية"...