قليلون هم الذين يعرفون أنّ الاحتفالات الشعبية التي نظّمت لأمير قطر حمد بن خليفة عندما زار جنوب لبنان، كانت عفوية كلها. العادة أنّ مثل هذه الزيارات النادرة من ملوك أو أمراء أو رؤساء دول لمناطق متروكة يُعدّ لها بعناية. الكل يستنفر: الدولة، الجهات الفاعلة، أهل الدعوة ومقرّبون من الضيف.لم تكن الأمور مرتّبة على هذا القدر يومها. حتى اللافتات والأعلام والصور التي رُفعت، لم تكن بالجودة التي تناسب الحدث كما اعتقد كثيرون.

لكن الأهم ليس حضور نواب وفاعليات ورؤساء بلديّات، بل خروج غالبية أهالي القرى كما هم، كما يخرجون عادة لملاقاة حبيب عائد من سفر، أو استقبال شهيد. كانوا طبيعيين إلى أبعد الحدود، وكانت رسالتهم: إننا نذكر لك، لأهل بلدك، أنّك فعلت ما امتنع أهل الدار عن فعله، وأنّ ما أُنفق من مال، تحوّل إلى منازل وأبنية، مساجد وكنائس ومستشفيات ومقارّ رسمية. أرادوا القول له شكراً، وإن ما أنفقته بلادك لم يذهب إلى غير مستحقّيه.. لكن الرسالة الأبلغ وما يميّز هذا الرجل عن غيره، أن الناس قالوا له كلمة وفاء، لأنه وقف إلى جانب المقاومة فيما كان بعض أبناء هذا البلد يتآمرون عليها.
خلال سنوات قليلة، احتلّت قطر مساحة متقدّمة في المشهد السياسي الإقليمي والدولي. لم تكن المسألة مرتبطة فقط بوفرة المال، أو بشبكة علاقات قائمة هنا وهناك في العالم، بل إن الأساس في كل ما حصل هو أنّ قطر اختارت، في لحظة الجنون القصوى لأميركا جورج بوش، وحيث توجد على أراضيها أكبر قاعدة أميركية، الوقوف إلى جانب المواقع الأشدّ خصومة للولايات المتحدة في المنطقة. سعت قطر إلى تمييز نفسها عن سائر جيرانها في الموقف العملي من إيران. قالت على رأس السطح إنها ضد عزل سوريا، ووقفت إلى جانب المقاومة في لبنان وفي فلسطين. وترجمت الأمر مواقف سياسية وتحركات دبلوماسية ودعماً مالياً معلوماً وغير معلوم، وأداة تواصل هي الأبرز من خلال قناة «الجزيرة». كانت خطوة قطر مثل مغامرة برأي كثيرين، لكنها كانت مغامرة محسوبة، وفي السياسة، كانت مغامرة مربحة.
لقد أخذت قطر في المقابل موقعاً يختلف كلياً عن مواقع الإمارات والممالك المشابهة لناحية الموقع الجغرافي، والثروة المالية، وآليات الحكم. ونجحت في احتلال مكانة خاصة، لأنها اختارت الوقوف إلى جانب سوريا والمقاومة في لبنان وفلسطين، وهي دفعت بعض الأثمان الكبيرة. حاول جورج بوش عزلها، وبعض العواصم الأوروبية صارت أكثر تشدّداً معها، ومحيطها المباشر، ولا سيما السعودية، سعى إلى معاقبتها بوسائل مختلفة، ومصر حسني مبارك حملت عليها وتعاونت مرات مع السعودية والأردن على محاولة إطاحة أميرها وحكومته...
لكنّ عنصر القوة الآخر، هو في كون الذين بنوا علاقات مميزة مع قطر، في لبنان، سوريا، فلسطين، السودان أو اليمن، لم يخشَوا يوماً على مصالح بلادهم من أن تتعرّض للخطر، لأنّ هذا البلد الصغير لا يملك الادعاء أنه يمثّل خطراً على أحد، ولا يملك القدرة على ادعاء طموحات تجعله وصيّاً على أحد، ولا يملك المساحة التي تتيح له احتواء أحد. في المقابل، لم تحضر قطر في الوجدان العربي من خلال برامج دعائية، أو استثمارات أو توظيفات مالية، أو حفلات دجل وكذب، بل من خلال الوقوف في المكان الصحّ، حيث القضية عادلة، وحيث الحقيقة واضحة، وحيث الواجب يفرض أن يكون الإنسان الحقيقي إلى جانب المظلوم، والتصدي للعابثين بحياته ومقدّراته.
يوم اندلعت ثورة تونس كان الجميع في حالة ترقّب، غابت الأحزاب والجبهات والتيارات خلف حشود من المواطنين، والشباب قرّروا مواجهة الخوف والظلم. كانوا يحتاجون إلى أداةٍ للتواصل مع العالم. فجأةً، أمسكت «الجزيرة» بزمام المبادرة، صارت الناطقة باسم هؤلاء. وبرز دورها أكبر مع اندلاع الثورة في مصر، وحتى الأيام الأخيرة قبل سقوط حسني مبارك، كانت «الجزيرة» تؤدّي باسم قطر، وباسم تيار واسع يمتدّ في كلّ العالم العربي، وحيث الانتشار، دور الداعم للثائرين والمغامر إلى جانب مَن أسقط أكبر طاغية في العالم العربي. ثم جاءت ليبيا واليمن والبحرين وسوريا... فصرنا أمام مشهد جديد!
عند هذه اللحظة، بدأ الأميركيون، والأنظمة الحليفة لهم، التعامل مع الأمر بطريقة مختلفة. انطلقت رحلة الاستنفار والضغوط، وصارت قطر أمام خيارات جديدة، وعند هذا الحد ظهرت الأسئلة الكبرى:
– لماذا تدعم قطر تدخلاً عسكرياً غربيّاً في ليبيا، ولماذا تعطي لنفسها دور المشارك في هذه العملية؟ هل تضيف قواتها شيئاً سوى إضفاء الشرعية على جرائم تعوّد الغرب ارتكابها في عالمنا العربي والإسلامي وضد شعوبنا؟
– لماذا تتحوّل «الجزيرة» إلى أداةٍ تروّج للعدوان الغربي على ليبيا؟ ليس صحيحا أصلاً أنّ الشعب الليبي منح عمرو موسى أو أيّ عربي حقّ استدعاء الغرب باسمه للتدمير، وإن كان الخصم الموجود في طرابلس مجرماً دموياً مثل معمر القذافي.
– مَن أقنع قطر، أو قناة «الجزيرة»، بوهم صناعة الثورات، حتى صار التصرّف على أساس أنْ لا ثورة من دونها وأنْ لا تغيير سيحصل من دون دعمها؟ ومَن كلّف هؤلاء مهمة اختيار الناطقين باسم الشعب الثائر في هذه الدول؟ وهل ثمّة واهم بأنّ ظهور شخصيات من داخل استديو «الجزيرة» يمكن أن يجعل منهم قادة لثورات أو شعوب، بينما هم يعيشون منذ عقود في الخارج، وبعضهم على تواصل يومي مع الإدارات الغربية، وبعضهم الآخر كان يفاوض سيف الإسلام القذافي للعودة إلى ليبيا؟
– مَن أقنع قطر، أو «الجزيرة»، بأنّ في يدهم تقرير صورة قادة الانتفاضات العربية وجعل الصورة المركّبة حقيقة ساطعة لا تقبل الشكّ؟ ومَن استدرج قطر ومعها «الجزيرة» إلى فخّ الدور المنفوخ؟ ومَن قال إن مصير الأمّة العربية صار رهن ما يُقرّر في الدوحة؟
– ثم ماذا عن اختبار البحرين؟ هل تكفي الإشارة إلى خلفية طائفية أو مذهبية لغالبية المحتجّين، حتى نمنع عن هؤلاء حقّ المطالبة بحقوق مدنية بديهية؟ وأيّ عاقل يوافق على إرسال قوّات احتلال إلى هذا البلد، والكل يعلم أنّ لكل ظالم نهاية؟ ومَن قال إن قناة «الجزيرة» سوف تكون خارج النقد إن هي قرّرت إدارة ظهرها لأكبر عملية تطهير عنصري يشهدها الخليج العربي؟ ومَن قال إن صوت المحتجّين في المنامة لن يصل إلى العالم، إذا ما قررت «الجزيرة» الامتناع عن بثّه؟
– ثم إذا كانت قطر، ومعها «الجزيرة»، تريد الوقوف، كما نحن جميعاً، إلى جانب الشعب السوري في مطالبه المشروعة بتحقيق إصلاحات جذرية، فهل هذا يمنح أحداً شرعية تحويل الأمر إلى أداة ضغط على النظام في سوريا لتحقيق أهداف سياسية أخرى؟
– مَن قال إن السوريين الذين يحفظون لقطر وقوفها إلى جانبهم يوم عمل العالم كله على عزلهم، يقبلون بنوعٍ من المقايضة تصل إلى حدود النطق باسمهم والتحدّث عنهم مع النظام نفسه أو مع الخارج؟
– كيف لقطر ولقناة «الجزيرة» أن تنتقل فجأة إلى موقع الساعي إلى إنهاك النظام في سوريا لا إلى مساعدته على تحقيق إصلاحات حقيقيّة؟ وهل المشاركة في التحريض على النظام هناك، هي ما يؤسس لحضور سياسي وشعبي لقطر في بلاد الشام؟
– مَن قال إنّ تورّط قناة «الجزيرة» في بثّ أخبار كاذبة وفي عمليات تغطية تفتقد الموضوعية، وإحياء أحقاد عند قسم من «الإخوان المسلمين» المنتشرين في المحطة من شأنه أن يخدم صورة قطر أو صورة قناة «الجزيرة»؟
وأبعد من ذلك، هناك الموقف السياسي، والسؤال المحيّر: مَن زرع في العقل السياسي القطري أن هناك إمكانية أداء أدوار تفوق القدرة؟
في هذه اللحظة، الأفضل هو العودة إلى الخلف قليلاً، وإلى التمييز بين الدور الداعم لحقّ الشعوب في الحصول على حقوقها – وهذا أمر لا يمكن أن يكون جزئياً، ومَن يرد نصرة أهل الشام لا يغضّ الطرف عن قتل أهل البحرين – وبين الدور الوطني الذي يصوّره لنا غرب له مصلحة فقط في تفتيت قدراتنا، أو إسلامي متملّق يسعى إلى تحقيق مكاسب آنيّة، أو انتهازيّ يعتقد أنها اللحظة المناسبة للفوز بالجائزة...
إنّ لقطر رصيداً حقيقياً عند الشعوب المنخرطة في معركة المقاومة ضد إسرائيل، وشعب سوريا من أبرز هذه الشعوب، وإذا كنّا جميعاً سنظلّ ندين قتل الناس وقمعهم، ونرفع الصوت لحفظ الحقوق، ولأجل أن يلتزم الرئيس الأسد برنامجاً إصلاحيّاً جذريّاً وجديّاً، فإن ذلك لا يقودنا في أي لحظة إلى التخلّي عن قضية مركزية، تتّصل بكيفية مواجهة الغرب واستعماره العسكري والاقتصادي والسياسي والثقافي، وتتصل أولاً وأخيراً بحقّنا في مواصلة المقاومة لاستعادة فلسطين، كلّ فلسطين.
لن يكون لقطر حلفاء يحمونها ويعطونها الدور الحقيقي غير أهل المقاومة. ولن يكون لقطر أيّ دور أو مساحة إنْ هي قرّرت الذوبان في السياسة الأميركية أو السعودية. ولن تكون لقطر صورة ناصعة إذا ما تلطّخت بدم ضحية واحدة تذهب جرّاء تضليل إعلامي، أو خطأ في السياسة.
أمّا قناة «الجزيرة» فهي أمام الاختبار الأصعب، لأنّ استعادة الصدقيّة والمهنيّة، تكون فقط عندما تفتح الكاميرا عينها على شكل عيون السمك، ترى كل شيء من حولها ولا تقف حائرة أو شاردة عن ظلم هنا أو ظلم هناك...