قبل انقضاء شهر واحد من بداية الاحتجاجات التي أطلقها استشهاد محمد البوعزيزي في تونس، كان زين العابدين بن علي يلوذ بالفرار معلناً استسلامه أمام الثورة التونسية. الثورة المصرية كانت أسرع في الحسم، فلم يستغرق مبارك سوى ثمانية عشر يوماً، ترك بعدها العرش الذي جلس عليه ثلاثين عاماً. الحسم السريع للثورتين التونسية والمصرية فتح أبواب الأمل للشعوب في المنطقة للتحرك، محاولة إزاحة رموز الاستبداد والحكام الجاثمين. فانطلقت الثورات في ليبيا واليمن والبحرين وسوريا. ولكن ما حُسم سريعاً في تونس ومصر، بدأ يتعثّر في باقي البلدان التي اشتعلت بالثورات. فقد مرّ شهر تلو الآخر على اندلاع الانتفاضات في عدد من الدول العربية عقب الثورتين التونسية والمصرية، وتزايدت التوقعات بتتابع سقوط الأنظمة العربية. لكن ما حدث أن الأمر لم يستمر بالطريقة نفسها التي سار بها في تونس ومصر، ولم يسقط حتى الآن نظام عربي ثالث بفعل الثورة. من الممكن بالتأكيد الحديث طويلاً عن ظروف كلّ ثورة والعوامل التي أسهمت في نجاح ثورات وتعثّر أخرى. ومن هذه العوامل: الأوضاع القبلية والطائفية وموقف القوات المسلحة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وعلاقة النظام بأميركا وإسرائيل والحالة الجماهيرية السابقة على الثورة، وغير ذلك من العوامل التي تؤثر سلباً وإيجاباً في مسار الثورات، وهي عوامل هامة بالفعل، ولا يمكن تجاهل أيّ منها. لكنّ هناك أيضاً عاملاً هاماً ظهر في الثورتين المصرية والتونسية وارتبط ظهوره بالحسم، وخاصة في المراحل الأخيرة قبل سقوط النظام، وغاب عن باقي الثورات التي تبدو إلى الآن متعثرة. هذا العامل هو الحركة العمّالية. ففي تونس، كانت الحركة العمالية قد بدأت بالصعود قبل الثورة، وكانت أحداث الحوض المنجمي في قفصة عام 2008 علامة فارقة في الحركة العمالية التونسية، وتلاها إضرابات الأطباء والمعلمين وعدد من القطاعات العمالية. كما كانت النقابات العمالية التونسية حاضرة بوضوح منذ بداية الأحداث. فرغم أن قيادة الاتحاد التونسي للشغل لم تبادر إلى اتخاذ موقف واضح في البدء، إلا أن النقابات الفرعية ـــــ سواء القطاعية أو الجهوية ـــــ أدت دوراً بارزاً في الاحتجاجات. ثم كان إعلان الإضراب العام في الأيام الأخيرة قبل هروب بن علي الذي حسم المعركة. والمفارقة أن عبد السلام جراد، الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل، كان آخر الشخصيات التي التقاها بن علي قبل هروبه مباشرة. والاتحاد التونسي للشغل يتميز من بين أغلب التنظيمات النقابية في الدول العربية بأنه تأسّس في خضمّ الحركة العمالية والوطنية قبل الاستقلال، لا بقرار من السلطة السياسية مثل أغلب التنظيمات العربية. لذلك فهو أكثر استجابة للحركة العمالية.ورغم أن اتحاد العمال الرسمي في مصر لم يكن له دور داعم للحركة العمالية مثل الاتحاد التونسي، إلا أن الحركة العمالية في مصر أدّت دوراً هاماً في تمهيد الأرض أمام الثورة. فمنذ نهاية عام 2006، انطلقت الحركة العمالية في مصر وتفجرت مئات الإضرابات في أنحاء الجمهورية. وفي بعض التقديرات، كان عدد العمال الذين أضربوا عن العمل بين 2006 و2009 يزيد على مليوني عامل. ويمكن القول الآن إن تحطيم صور مبارك في انتفاضة مدينة المحلة العمالية عام 2008 للمرة الأولى طوال حكمه، هي الإشارة الأولى إلى الثورة المصرية. كما كانت المدن العمالية مثل المحلة والسويس والقاهرة والإسكندرية هي الأكثر تفجراً خلال الثورة. ورغم أن الإضرابات العمالية لم تحضر بقوة في الأيام الأولى للثورة بسبب حظر التجوّل الذي كان يشمل أغلب ساعات اليوم، فإنّها سرعان ما انتشرت بشكل لم تشهده مصر من قبل بمجرد تقليص ساعات حظر التجوّل في الأيام الأخيرة للثورة. وبدا ساعتها أن النظام لا يمكن أن يستمر مع دخول أغلب مواقع العمل في إضرابات. لم تنظم أو تدعُ أي جهة نقابية أو غير نقابية الى الإضراب العام في مصر خلال الثورة. ومع ذلك، ما جرى في الأسبوع الأخير لم يكن أقلّ من إضراب شامل جعل الثورة تتجاوز الطابع المركزي في ميدان التحرير والميادين الرئيسية في المحافظات وتنتشر في مواقع العمل ليصبح الخيار الوحيد أمام مبارك هو ترك السلطة. أدت الحركة العمالية في مصر وتونس، رغم الاختلاف بينهما، دوراً حاسماً في هزيمة النظام في كلا الثورتين.
لكن ما يؤكد هذا الدور الحاسم للحركة العمالية في الثورة ليس فقط مجرى الأحداث في مصر وتونس، ولكن أيضاً مسار الثورات التالية. فالواضح أن ليبيا والبحرين واليمن وسوريا لم تتدخل بها الحركة العمالية بثقل حقيقي إلى جانب الثورة. وتختلف أسباب غياب الحركة العمالية عن الثورة أو ضعفها في تلك البلدان. ففي البحرين، مثلاً، تمثّل العمالة المهاجرة من بلدان آسيوية وأفريقية وعربية الجزء الأكبر من عمالها. وعلاقة تلك العمالة بالمجتمع البحريني وأوضاعه السياسية علاقة مؤقتة وليست دائمة. الأمر نفسه ينطبق على ليبيا، وإن بدرجة أقل. أما اليمن، فحركتها العمالية والنقابية تتداخل فيها التقسيمات القبلية والجغرافية، كما أنها لم تشهد تحرّكات عمالية ذات شأن في الفترة السابقة. وفي سوريا، يخضع التنظيم النقابي بالكامل للحزب الحاكم. وهو وضع متكرر في أغلب الدول العربية، لكن سوريا لم تشهد في الفترة السابقة أيضاً حركة عمالية صاعدة ومستقلة عن التنظيم النقابي الرسمي، كتلك التي شهدتها مصر.
لأسباب أو لأخرى، غابت إذاً الحركة العمالية حتى الآن على الأقل عن المشهد الثوري في الدول التي تفجرت فيها الانتفاضات الثورية بعد مصر. وقد يكون من الصعب ظهورها في المشهد في بعض تلك الدول لظروفها الخاصة. لكن الأحداث أكدت أهمية الحركة العمالية لحسم الثورات. تأكد ذلك بالإيجاب في مصر وتونس، وبالسلب في ليبيا والبحرين واليمن وسوريا. والنتيجة التي نستطيع التوصل إليها ليس أن الثورات المتفجرة اليوم ستستمر في تعثّرها بسبب غياب الحركة العمالية، ولكن يمكن صياغة النتيجة بإيجابية أكثر عندما نقول إن ظهور الحركة العمالية في المشهد في هذه البلدان إلى جانب الثورة ضروري لحسمها، وخاصة في سوريا واليمن.
لقد جرى تضخيم الكثير من الأدوار في الثورات العربية، منها دور الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة والمؤسسة العسكرية وحتى الدعم والتأييد الخارجيان، وهو ما يدفع الثورات العربية في الاتجاه البرتقالي. وفي الوقت نفسه، جرى تجاهل دور الحركة العمالية سواء عمداً أو عفواً، وهو ما ينزع أيضاً عن الثورات بُعدها الاجتماعي والاقتصادي، رغم أن مفجّرها كان العاطل من العمل الذي أشعل النار في نفسه. لكن النظرة المنصفة للأحداث تؤكد الدور الحاسم في الثورات العربية. وهنا لا يقتصر دور الحركة العمالية على حسم الثورة في ليبيا والبحرين واليمن وسوريا فقط، بل إن دورها أكبر في تونس ومصر. فالطبقة العاملة هي الوحيدة القادرة على حماية الثورة من محاولات السيطرة عليها واختصارها في مجموعة من الإصلاحات السياسية، مع استمرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية نفسها.
تلقي الأحداث بمسؤوليات جسيمة على حركة عمالية أرهقها الاضطهاد والقمع من الأنظمة المستبدة والتجاهل من النخب السياسية لعقود طويلة. ومع ذلك، استطاعت أن تحقق مفاجأة لم يدركها الجميع عندما حسمت الثورة في تونس ومصر. لذا، فإن تدخلها لحسم ما تعثّر من ثورات وحماية وتوجيه ما أنجز منها لن يحمل أي مفاجأة.
* كاتب مصري
6 تعليق
التعليقات
-
ما حدث في تونس ومصر من ثوراتما حدث في تونس ومصر من ثورات عظيمة فتحت الباب امام بقية العرب كان بسبب وجود مؤسسات مستقلة الى حد ما كما هي مؤسسة الجيش الاكثر اهمية.. هناك لديهم نقابات وجمعيات حقوق انسان واحزاب فاعلة.. ومع ذلك فان ما حدث هناك سيحدث في كل بلد عربي, وانصح الحكام ان يفهموا انفسهم وشعوبهم كما فهم بن على الذي تبين انه الاقل اجراما بين الحكام العرب رغم انه هو الاخر مجرم.. عليهم ان يغادروا بشرف قبل ان يتم اذلالهم..
-
ليس هناك حركة عمالية فاعلة في العالم العربينعم يا صديقي إنه العامل المذهبي و قد أصبح الآن أكثر وضوحا في سوريا بعد ارتصاص الأقليات المختلفة خلف النظام خوفا من البديل المتشدد الذي بدأ يطل برأسه من كل زاوية و مفترق و زنقة فقد رأينا بأم أعيننا و لم نتوهم بأن العديد من المناطق أعلنت نفسها إمارات إسلامية و كفرت جميع المخالفين حتى السنة المعتدلين لذا فإن الحركة العمالية لم و لن تكون عاملا حاسما في نجاح الثورات في البلدان العربية و حتى في مصر و تونس أتى الحراك العمالي لاحقا للحراك الشعبي و ليس قائدا له و كانت الثورة تضم جميع أطياف المجتمعين التونسي و المصري في حين أنها في سوريا على الأقل لا تشمل غير فئة واحدة في مجتمع متعدد و حتى من شملتهم من هذه الفئة يعتبرون أقلية داخل فئتهم .
-
فورة سورية مفتعلة 2إن سقوط نظام مبارك و بن علي قد وجه صفعة قوية لأمن إسرائيل ووجودها و خاصة بظهور توجه جديد لدى شباب مصر المعادي لكامب ديفيد وما فاقم الوضع هو الاحتجاجات المناهضة للأنظمة في الأردن و دول الخليج و التي لها علاقات جيدة مع اسرائيل من جهة و من جهة أخرى اقتراب موعد انسحاب الجيش الأمريكي من العراق وبالتالي فاقم ذلك تهديد أمن اسرائيل. الحل بايجاد بديل سياسي في سوريا يضمن أمن اسرائيل ومما يدلل على ذلك التكالب الأمريكي و الأوربي و الخليجي على النظام السوري و اقحام مجلس الأمن و مجلس حقوق الإنسان بالمشكلة السورية. و التهويل الإعلامي الخليجي و الأمريكي لأحداث سوريا و إغفالها للعصابات الإجرامية المسلحة و التخريبة التي تعتدي على الجيش و المواطنين و إغفالها للاصلاحات التي قدمها النظام السوري و فرض عقوبات أحادية على هذا النظام. أن وعي الشعب السوري و وطنية الجيش السوري قد أبطل مفعول هذه الفورة المفتعلة و زاد من تكاتف الشعب مع النظام السوري العروبي و القومي بتوجهاته.
-
فورة سورية مفتعلة 1أن ماحصل في الشارع العربي هو فورات شبابية ساعد على نجاحها الاستبداد و التسلط الأمني على كافة مفاصل الدولة مما أفقر الشعب و أذله. إن الثورة ايديولوجيا لها منطلقات و لها أهداف لتحقيقها لا أن تسير بالبلد إلى المجهول كما يحدث اليوم في مصر و تونس. إن ماحدث في سوريا هو فورة اصلاحية كاذبة تم التخطيط لها من قبل أمريكا و أوربا و دول الخليج العربي لزعزعة استقرار سوريا و ارضاخ النظام السوري أو اسقاطه واستبداله بنظام سياسي جديد يقبل التعايش السلمي مع اسرائيل وفقا للشروط الاسرائيلية و الأمريكية.
-
فورة سورية مفتعلةعزيزي الكاتب إن ماجرى في مصر و تونس هو فورة شعبية لا ثورة كما تدعي فالثورة لها ايديولوجية و أهداف تتعداها الى اسقاط النظام فقط إلى مرحلة مابعد اسقاط النظام لتسير بالمجتمع إلى بر الأمان لا إلى مهب الريح كما يحدث الآن و للأسف في تونس و مصر.
-
لماذا انتصرت ثورات وتعثّرت أخرى؟بسم الله الرحمان الرحيم أللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم لا بد من ملاحظة غياب العامل المذهبي في ثورتي تونس ومصر،إذ أنه لم يكن من أسباب حصولها،وفي المقابل فقد صدرت الأوامر من البيت الأبيض بضرورة التنحي.أما في سوريا فإن العامل المذهبي حاضر بقوة،إضافة إلى عامل الدفع والتوجيه الخارجي،والذي انكشف وانفضح بسرعة،والذي زاد الطين بلة،هو استعمال السلاح من قبل المتمردين،فضلا عن غياب عامل أوامر البيت الأبيض،لتعذر حضوره في الحالة السورية. في البحرين لم يكن الدافع للثورة مذهبيا،ولكن تم قمعها بخفلية مذهبية،إضافة إلا غياب الدعم بسبب الضعف المذهبي(يعني بلخفية مذهبية) http://www.al-akhbar.com/node/12627#comment-36006 http://www.al-akhbar.com/node/12627#comment-36007 http://www.al-akhbar.com/node/12627#comment-36009 أللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم