strong> فداء عيتاني
من الماركسية الى الإسلام، وكرد فعل على محاولة تلميع صورة بشير الجميل الدموية، انطلق شبان غاضبون لم يجدوا غير الإسلام أداة لتثوير الجمهور المضطهد والمكسور، وساعدهم على ذلك اجتياح إسرائيلي وتعنّت مسيحيّ

شبان ينتفضون على «نهاية التاريخ» ويدخلون الإسلام الثوري

من خارج الحركة الإسلامية التقليدية خرجت مجموعات من الشبان باستنتاجات غير اعتيادية. مجموعة الماويين في الشمال أدّت دوراً في تكوين فكر آخر يحاول الرد على التحديات الملقاة على عاتق الإسلاميين. هذه التحوّلات ليست غريبة عن كثيرين من علماء الدين الإسلاميين. في الجنوب، يمكن ملاحظة العديد من العلماء الذين التحقوا في بداية حياتهم بقوى اليسار قبل ان يتخلّوا عنه، كالشيخ ماهر حمود، الذي انتقل الى الجماعة وعاد وتركها عام 1979.
«السيطرة الأميركية على المنطقة العربية ستمتد الى اكثر من 50 عاماً، والآفاق مغلقة بالكامل، والشارع السني يحمل آفاقاً تغيرية إذا تم تثويره دينياً، والاحتلال العثماني خدم إيجابياً قضايا التطور المحلية، وعودة الخلافة الإسلامية هي ثورة على الوضع القائم».
كانت هذه مراجعة عامة سريعة لمنظومة من الأفكار التي ستحمل العديد من الشبان على التأهب لمرحلة لاحقة سيؤدّون فيها دوراً مركزياً وإن كان لفترة قصيرة زمنياً. ولم تتوقف النقاشات عندَ هذه النقاط، اذ بدأت المجموعة، وبشكل فردي وضمن نقاشات ضمنية، «تتخذ قرارات بالتحوّل الى الإسلام، ومن ضمن المجموعة ابو عربي (خليل عكاوي)، ومسؤول حركة لبنان العربي الدكتور عصمت مراد، ومسؤول المقاومة الشعبية فؤاد الرشيد وغيرهم» بحسب احد المشاركين في تلك المجموعة.
بعض هؤلاء الشبان الغاضبين من واقع لا يتغير ومن صراعات أهلية لا تنتهي ومن نصر موعود لن يتحقق اعتزل العمل الحزبي، وانتقل في قرار ذاتي إلى التعبُّد في المساجد. حتى إن دخل الإيمان قلوبهم دخلوا هم الى قلوب المساجد والمصلين، وراحوا من المنتصف الثاني للسبعينات من القرن الماضي يحتكون بفئات لم تكن تقع ضمن دائرة اهتمامهم سابقاً، وكانوا بحسب قول احدهم «يعودون الى بيئتهم الطبيعية».
ومع انتصار الثورة الايرانية، وحينها لم يكن التناقض السني ـــــ الشيعي حادًّا، تأثرت المجموعة الماوية الشمالية بثورة الشباب الايرانية وآية الله علي الخميني، وتقرب الايرانيون من المقاومة الفلسطينية، وليس فقط من قواها الرئيسية مثل فتح، بل من قوى أخرى أيضاً، وكان نموذج التقارب هو نواف صفوي الذي جاء وقاتل مع الإخوان المسلمين في فلسطين في المنتصف الاول من القرن الماضي. ووقف اية الله علي الخميني موقفاً مشابهاً من القضية الفلسطينية التي هي عصب الأحلام الإسلامية السنية، والخميني من أجواء الصفوي الفكرية والسياسية. وحظي تقرب الثورة الايرانية المنتصرة من ثورة تعيش حالة المراوحة باستحسان العديد من التيارات السنية.
الا ان المشكلة السنية الشيعية برزت وللمرة الأولى، علنا، حين طلب الإخوان المسلمون السوريون من الخميني مساعدتهم في سوريا ضد الرئيس السوري حافظ الاسد قبل 1981، «وحينها رد الايرانيون بأن امكانات ايران كلها موضوعة في تصرف الإخوان لقتال كمب دايفيد واسرائيل، وإنما الأسد هو الوحيد الذي يقف ضد اسرائيل، ولا يمكننا القتال ضده. وكان ذلك التباين الاول بين ايران والاخوان والسنة» بحسب أحد علماء الدين الذين عايشوا ملف الإخوان السوريين في تلك الحقبة.
وما رفع من معنويات المجموعة الماوية السابقة هو «مقتل السادات على يد اسلاميين، وتطورت الأمور بسرعة، من الانتصار على الشاه في ايران، وكل الماركسيين انشقوا ما بين اعتبار الثورة الايرانية حركة رجعية واعتبارها حركة تحررية، وانخرطت المجموعة الماوية والمثقفون في الرهان على الاسلام» بحسب أحد الذين تحولوا من الماوية الى لبس الطربوش الملفوف دلالة على العلوم الدينية التي يحملها، وان كان الرجل لا يزال يرتدي سراويل الجينز في حياته اليومية. وانتهت المجموعة الماوية، التي اصبحت الأغلبية فيها ترى الدين كمثور للجمهور.
وفي عام 1979 ترك العديد من الشخصيات الجماعة الاسلامية، وكان أبرزهم الشيخ سعيد شعبان والشيخ ماهر حمود. تنوعت اسباب الخروج من الجماعة، الا انها ترافقت مع احداث كبيرة هزت المنطقة، وبدا كأن الجماعة لم تعد تتفاعل مع الواقع السياسي المعقد في لبنان والشرق الأوسط.
الا أن بقايا من قوة لدى الحركة اليسارية والمقاومة الفلسطينية كانت لا تزال تجذب الجماهير بالمعنى الواسع، وما تلمسه العديد من الشبان المثقفين من تراجع قدرة اليسار على تقديم اجابات عن اسئلتهم وعن التقدم خطوة نحو انتصارات موعودة سينتظر أعواما قبل أن يشق طريقاً خاصاً ما بين اسلام تربوي ويسار وقومية تتراجعان. وكانت سوريا في تلك الفترة تعيش هاجس السنّة اللبنانيين الذين سيدعمون سنّة بلاد الشام، وخاصة خلال الضربة الشهيرة التي وجهها الجيش السوري الى حركة الإخوان في أهم معاقلها السورية.
«لم تمثّل زيارة الرئيس المصري انور السادات إلى اسرائيل ودخوله الكنيست الاسرائيلي رد فعل كبرى لدى الحركات الاسلامية» كما يقول أحد الذين أمضوا أعواما طويلة في السجون السورية نتيجة قيادته لمجموعات عسكرية جهادية، «ولم تظهر اثار نهضة من وراء هذه الزيارة عام 1977، فالحركة اليسارية وتلك القومية كانتا لا تزالان تسيطران على الساحات التحررية»، وان كانت التيارات اليسارية والقومية لم تسمح بانتعاشات للجهاديين في لبنان إلا أنها عجزت أيضاً عن صياغة رد سياسي على ما قام به السادات، وهو ما سيؤسس لإفلاس سياسي سيظهر جلياً لدى هذه القوى بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982.
ويتابع الذي امضى ما يزيد على ثلث عمره في السجون: «غير أن مقتل السادات على يد اسلاميين كان له اثر ايجابي في دفع الحركات الاسلامية إلى الامام، بينما زيارة السادات إلى اسرائيل ادت إلى ردّ فعل في مصر وحدها، حيث المركز الأم لحركة الاخوان العالمية. ورغم وجود الاخوان في سوريا وبلوغهم الذروة فإن الاحداث الاقليمية لم تمثّل لهم رافعة في العمل السياسي».
لم يمثّل انتصار الثورة الايرانية أي تيار سياسي في لبنان حينها، كما أن أحداث الحرم في المملكة العربية السعودية عام 1979، لم تحظ بأي رد فعل في المنطقة (وقد برر جهيمان العتيبي قائد العملية هجومه الذي وقّته في اول يوم من العام الهجري 1400، الموافق في 20 من تشرين الثاني 1979، باعتباره محاولة لتصحيح الوضع الذي تسبب به آل سعود، الفاقدون للشرعية، حسب رأيه، إضافة إلى دعوته لمبايعة محمد عبد الله القحطاني خليفة للمسلمين، وإماماً لهم على أساس أنه (المهدي المنتظر)، وفي السعودية، وفي حركة الحرم، تم اعتقال اربعة كوادر من طرابلس شاركوا في العمليات.
وحين وقعت حادثة جهيمان «رأت السلطات السعودية انه من الواجب رعاية الجانب الاسلامي وعدم تركه ينشط وينشأ وحده» بحسب ما يقول الشيخ ماهر حمود، «ولم تصل الى الحد الذي يمكّنها من توجيهه كما ترغب، ولكن ما جعل الفكر السلفي ينتشر هو الامكانات المالية، من الكتب الى الأقنية الفضائية السلفية. وفي لبنان تطور الفكر السلفي في الخفاء، ولم يكن احد يتوقع ان تقوم فئة بتنظيم اغتيال الحلبي، والصدفة هي ما كشف المجموعة التي نفذت الاغتيال» حيث بدأت المحاولات الاولى لدعم السلفيين بعد حادثة الحرم، وخاصة بعد اكتشاف اربعة لبنانيين متداخلين في الحوادث.
على المستوى السياسي، كل ما شكلته الثورة الايرانية هو حالة المراجعة. في تلك الاثناء كانت حركة الاخوان المسلمين في سوريا تأخذ مداها، ووقعت عملية اجتياح حماة و«تطهيرها»، لكن الشارع اللبناني لم يتفاعل معها بشكل جدي، رغم ان ياسر عرفات كان يدرب هؤلاء، وكان الملف موكلاً الى ابو طعان.
ويروي احد الخارجين من سجون سوريا أن «ياسر عرفات، بتوافق غير معلن مع ابو طعان كان يدرب العناصر السورية من حركة الاخوان المسلمين في مخيمات حركة فتح في لبنان، وتدخل عدد من الرؤساء العرب لمنع اعدام ابو طعان بعد اعتقاله عام 1983في سوريا، إذ تربطه علاقة خاصة بالملك الاردني السابق حسين والرئيس الليبي معمر القذافي، ولكن حركة التدريب الرئيسية للاخوان المسلمين كانت تتم في الاردن والعراق، وعلى اثر هذه العلاقة بالاخوان السوريين تم اعتقال فتحي يكن عام 1980 وسجن لمدة عام. علماً أن فتحي يكن كان في تلك المرحلة يشغل منصباً حساساً في حركة الإخوان المسلمين العالمية إذ كان اميناً لسرها».
إلا أن الحركة الجهادية الإسلامية كانت بذاتها غائبة عن الواقع حينها. كانت الأعوام تقترب من اجتياح اسرائيلي لا يبقي ولا يذر، وهي مرحلة حاول فيها اليسار اغتيال بشير الجميل، الذي بفضل سياساته سيشكل أحد اكبر عوامل الاستفزاز لكل المسلمين. وفي الوقت الذي كان يباد فيه الإسلاميون في سوريا في حمص وحماة، كانت الماكينة الحربية لبشير الجميل تبدأ بطرح صورة جديدة للشاب الاكثر دموية في تاريخ لبنان «الرجل الذي بنى سلطته على قتل المسيحيين فضلاً عن المسلمين والفلسطينيين» كما يقول ماهر حمود.
ويروي كتاب الان مينارغ «اسرار حرب لبنان» تلك المرحلة تفصيلياً، وخاصة اللقاءات التي مهدت لانقلاب بشير الجميل على السلطة ودخول القوات الاسرائيلية الى لبنان وفرض بشير الجميل رئيساً للجمهورية، وهو ما ادى الى بدايات جديدة في الصراع اللبناني. حينها تم تأليف ماكينة اعلامية ودعائية لبث صورة جديدة للشاب الذي سيصبح مرشحاً للانتخابات الرئاسية او اول انقلابي في لبنان في حال لم تنجح محاولات الانتخاب.
وفي مكان ما من العالم كان شاب يشاهد صور قصف الطيران الاسرائيلي لبيروت المحاصرة صيف عام 1982، وسيقول بعدها بسنوات طويلة ان تلك المشاهد هي اول ما دفعه الى الاتجاه نحو الفكر الجهادي، واسم هذا الشاب اسامة بن لادن.
«ما سرّع تكوين حركة جهادية هو الاجتياح الاسرائيلي للبنان، لا الثورة الايرانية، ولا مقتل السادات او معارك حمص وحماة» كما يقول احد الكوادر الاسلامية السابقة، «وكانت الرموز التي حاولت الانفتاح على الثورة الايرانية عبارة عن رموز محلية مناطقية وخاصة في الشمال»، وبالتالي انحصر تأثير الثورة الايرانية قبل الاجتياح على المستوى المحلي في بعض المناطق اللبنانية.
واستمرت مرحلة الجهاد عبر المقاومة الفلسطينية بحسب الشيخ ابراهيم الصالح، واحتضان الثورة لقوى جهادية الى بداية الثمانينات، وكانت محطة عام 1982 التي بدلت الأوضاع.

خليل عكاويقتل خليل عكاوي عام 1986، وكان قد بدأ بالاتجاه نحو استكشاف القدرة التثويرية لدى الإسلام عام 1979، وحين قتل في عام 1986 كان عمره 31 عاما (من مواليد 1955). وكان من رفاق خليل باسم ميقاتي الذي بدأ حياته كشيوعي متمرد، وشرع باسم في اقناع خليل عكاوي بالاسلام، وكان هناك جو عام أطلق بموازاة الثورة الإيرانية، وخاصة مع استشعار هؤلاء الشبان بالعجز في المخاض الذي لا يصل إلى نتيجة في هذه المنطقة العربية. وكان باسم يتحدث حينها عن إمكان قيام اسلام ثوري، وبدأ باسم ميقاتي بالانتقال رويداً رويداً نحو «اسلام ماركسي».
وانشأ خليل ما سماه لجان المساجد والأحياء، التي هي شكل من اشكال ترجمة «السوفياتات»، أي فكرة مجالسية، وكان يحاول تسيير هذه المجالس ليكون في كل لجنة رابطة من ابناء الحي تحل بشكل جماعي مشاكل الناس وتتابع شؤونهم وتدافع عن الحي بما في ذلك عسكرياً، وان يكون اللقاء في المسجد الذي هو مكان للناس. وبدأ يبحث عن اسنادات فكرية ومنطقية لهذه الفكرة. وفي تلك المرحلة قرأ خليل عكاوي كتب محمد شحرور ومحمد جودت السعيد وعلي شريعتي، ولم يكن يلتفت إلى كون شريعتي شيعياً ومحمد جودت السعيد سنياً، وقرأ حسن حنفي، وكل ما كتب من محاولات لاستنطاق الدين الإسلامي بوجهة ثورية.
وكان خليل في شكل من الاشكال ابن هزيمة 1967، وكان عمره حينها 12 عاماً، وفي 1969 ذهب سيراً إلى معسكر حركة فتح في المنطار، ووصل إلى المعسكر وقال للفدائيين: «اريد المشاركة في التدريب». وقد أعاده اهله بالقوة إلى المنزل.
وكان شقيق خليل الاكبر علي عكاوي قد تطور من العلاقة بحزب النجادة بقيادة عدنان الحكيم، إلى الاقتراب من الحزب التقدمي الاشتراكي، إلى الموت في نزاع عنيف داخل الأحياء مع السلطة في احد التحركات المطلبية المحلية، وكان علي نموذجاً للمثقف المحلي الذي يرتدي ربطة العنق بينما ابناء الحي يسيرون حُفاة.




الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | الجزء السادس | الجزء السابع | الجزء الثامن | الجزء التاسع | الجزء العاشر | الجزء الحادى عشر | الجزء الثاني عشر | الجزء االثالث عشر | الجزء الرابع عشر