ها هي سوريا تقف مرّة جديدة في مواجهة نفسها. ليس هناك من يريد أن يستمع إلى الآخر. المحتجّون ليسوا في واقع يمكن فيه الحديث عن قيادة موحّدة أو واضحة لهم. والحكم يحصر الكلام ضمن دائرة ضيقة، فيما الخطوات على الأرض لا توحي بأن الطرفين يستمع أحدهما إلى الآخر. المحتجّون ومَن يحاول قيادتهم قرّروا المضيّ في التحرّكات، ولو بالوتيرة نفسها التي شهدناها منذ اندلاع الاحتجاجات.
والحكم لا يريد تعديل وجهة التعامل في سياق المواجهات الدموية، الآخذة في التصاعد، بعدما قرّرت جماعات معارضة اللجوء علناً إلى السلاح. وربما هي تفعل ما تعتقد أنه خطوة ضرورية لجذب العالم إلى تدخل مباشر أكبر في سوريا، أو تعتقد أنها محقّة أو حرة في مواجهة الحكم السوري بهذه الوسيلة. وفي ظل غياب مرجعية محايدة نسبياً، لتقدير حقيقة الأمر أو القيام بمبادرة لاحتواء الموقف، تبقى الصورة رهن من يقدمها إلى الجمهور.
في هذه الحالة، يقول المحتجون إن المسلحين ليسوا ظاهرة مستجدة، وإن التسلح أمر عادي في سوريا. كذلك فإن وجود مجموعات سلفية أمر يعرفه السوريون جيداً منذ أقلّ من عشرة أعوام. وبين المواطنين من يحمّل النظام مسؤولية تكاثر هذه المجموعات أو عدم التصدي لها في الوقت المناسب. ويقول المحتجّون أيضاً، إن العنف الذي تمارسه أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية يتحول يوماً بعد يوم إلى حالة عادية، وهي تفقد مقصدها الردعي، وإن الذين ينظّمون التظاهرات هنا وهناك، يفعلون ذلك رغم حصول عمليات قمع دموية أو اعتقالات واسعة، وإن لجوء بعض النسوة إلى التظاهر في بعض الأمكنة إنما كان المقصود منه إشعار النظام بأن اعتقال الرجال أو إبعادهم لن يغيّر في الأمر شيئاً. ويرى المحتجون أن النظام يقدم تنازلات لكنه يفعل ذلك تحت الضغط، وأن في هذا ما يدفع إلى رفع مستوى الضغط وصولاً إلى مستويات جديدة من التنازل. لكن الانقسام يعود ليبرز بين المحتجين عند السؤال عن السقف الأعلى للمطالب، وهل هناك فعلاً استعداد لخوض معركة تحت عنوان إسقاط النظام أو إسقاط الرئيس؟
في المقابل، يتصرّف أهل الحكم بطريقة لا تعكس قلقاً استثنائياً. البعض من المسؤولين في دمشق لا يخفون قلقهم من احتمال تدهور الأمور. لكنهم يحصرون المواجهة مع مجموعات مرتبطة بجهات معادية في الخارج. وصار النظام يقدم أمثلة كثيرة على هذا الارتباط، وأهم ما بين يديه الآن التحرك الدولي والعربي في سياق دعم مجموعات معارضة ليست موجودة داخل سوريا. ويعتقد أهل النظام أن ارتفاع منسوب الضغوط الخارجية هو تعبير عن تراجع قدرة المعارضة الداخلية على تحقيق نتائج كان كثيرون يتوقعون حصولها في فترة وجيزة.
إضافة إلى ذلك، يردد أركان في النظام أن الانتظار السوري العام لم يشهد تقلبات كبيرة، وأن الاحتجاجات لا تزال محصورة في مناطق بعيدة عن مركز القرار السياسي والاقتصادي وحتى الطائفي. وهم يعتقدون أن الأمر سببه ليس فقط خوف أهل المدن من المشاركة في أعمال قد تودي بالاستقرار القائم أو ببعض مصالحهم، بل لأن هناك فئة كبيرة من السوريين باتت على اقتناع بوجود أطراف خارجية غير مهتمة إلا بإسقاط النظام، إما لأسباب سياسية متصلة بالمشروع الأميركي في المنطقة، وإما لأسباب طائفية متصلة بحالة الاستنفار الطائفي والمذهبي التي تعيشها المنطقة. ويسأل أهل النظام خصومهم: لماذا لم يتحرك أهل دمشق وحلب ونحو ثلاثين مدينة مركزية في سوريا يمثّل عدد سكانها أكثر من ثلثي الشعب السوري؟ ولماذا لم يبادر أي كادر أو قيادي أو موظف بارز في الدولة أو في الأجهزة الأمنية والعسكرية إلى إعلان تمرّده أو انشقاقه كما حصل في مناطق أخرى من العالم العربي؟
ويضيف أصحاب هذا الرأي أنّ الأمر ليس عائداً إلى ضغوط غير مرئية كما يقول المعارضون، بل إلى أن هناك فئة كبيرة من الشعب السوري باتت تخشى أكثر من ذي قبل على الاستقرار، وتخاف الحرب الأهلية، وأن الحكم يقدم تنازلات ذات طابع إصلاحي يمكن البناء عليها لتطوير النظام بكل أوجهه.
لكن بين أهل النظام من صار يقرّ بوجود عقبات أمام عملية إصلاحية شاملة وجريئة. ويشير هؤلاء إلى البنية القيادية في حزب البعث الذي لا يقدر على أداء دور توفيقي في هذه المرحلة. بل إن ابتعاده عن المواجهات ـــــ بحسب أحد أركان النظام ـــــ قد يمثّل عنصراً إيجابياً لئلّا تتجه الأمور مباشرة صوب مواجهات دموية في مناطق كثيرة من البلاد. كذلك يشير هؤلاء إلى أن الأمور ليست سهلة كما يعتقد كثيرون، وأن عملية التغيير تحتاج إلى وقت للتنفيذ، حتى لو تحقق الاستقرار الكامل الآن.
أما في المحصلة، فإن سياق المواجهات مستمر في سوريا. والأخطر في المسألة هو انقطاع التواصل بين الجانبين. ويبدو أن تجربة «الدردشة» بين مسؤولين ومعارضين، لم تكن كافية للحديث عن حوار أو عن وساطة أو عن مشروع توفيقي. وكل ذلك يزيد الخشية من احتمالات التفجّر الأمني يوماً بعد يوم. فكيف ستكون الحال في ظل تعبئة طائفية ومذهبية مقيتة جارية على قدم وساق؟
سوريا تحتاج إلى شخص، جهة، دولة، أو أي شيء يمكنه جسر الهوة القائمة، لعدم إلقاء استعداد النظام للإصلاح في الهواء، ولعدم دفع المحتجين إلى نقطة تنطلق منها البلاد نحو حرب أهلية طاحنة.