العلّامة، والفقيه، والإصلاحي، والمجدّد، والاشتراكي، والمناضل الوطني، والناقد لتاريخ الإسلام... كل تلك الصفات وغيرها، تنطبق على الشيخ عبد الله العلايلي (1914 ــــ 1996) الذي كان محور ندوة مهمّة هذا الأسبوع، في بيروت. منذ التحاقه بجامعة الأزهر عام 1924 بدأ برسم تاريخه المقبل. الفتى الذي تقاطعت طفولته «الكئيبة» ـــــ كما قال مرةً ـــــ مع اندلاع أول حرب عالمية، أدرك الأهمية الإصلاحية الملقاة على عاتقه بدءاً من عام 1936 حين وضع كتابيه «سورية الضحية» حيث انتقد المعاهدة السورية ـــــ الفرنسية و«إني أتهم» حيث سدّد سهامه إلى الكانتونات الطائفية في لبنان.باكراً، لامس هموم العرب ومشاكلهم، فشرّحها على مائدة النقد البنّاء، من دون أن يتوانى لحظةً عن تفسير أفكاره التقدمية، وهو القائل «أما العرب اليوم، فقد زاد التأجيج بينهم وهذا لا ينكر، نتيجة عوامل عدة: التسميم الأجنبي بعد الانتداب، حزبية المناسبات، الثقافة المأجورة، تطويعنا مادياً وأدبياً على قوانين ليست انعكاسات لأصدائها وأصداء بيئتنا، والتمدن المغرور في العادات والسّنن ومناهج السلوك». كأنّنا بالعلايلي معاصرنا، يضع إصبعه على هذا الجرح المفتوح حتى اليوم في وجداننا العربي. ولعلّ هذا ما دفع مركز التراث اللبناني في «الجامعة اللبنانية ـــــ الأميركية» LAU، إلى تخصيص ندوة منذ أيام عن العلّامة الذي يبقى حاضراً في مؤلفاته التأسيسية وأفكاره واجتهاداته في اللغة والسياسة والإسلام بعنوان «الشيخ عبد الله العلايلي: فكر طليعي في تراث لبنان» (راجع المقال أدناه). ونأسف لعدم إشراك الناشر البيروتي للعلايلي في هذا الحدث، أي «دار الجديد» التي أدّت دوراً مهمّاً في التعريف بفكر العلامة الراحل ومساره وإنجازاته.
رائد اللغة العربية، والمبتكر فيها بطول أناة العارفين، حفر فيها كلمات تؤكد أنّ للغة الضاد ألسنتها العابرة للعصور. ومن منطلق إيمانه بأنّ اللغة مرآة الفكر وبأنّ التطوّر الحضاري مرتبط عضوياً بالتطوّر اللغوي، حفر في لغة الضاد وابتكر مصطلحات جديدة مثل مرناة (رنا، يرنو، أطال النظر) أي التلفزيون، والحلانيّة أي العصرانية أو العلمانية، وترهيّات أي ميثولوجيات (بمعنى أساطير وعادات)، واستبدل بمصطلح الاجتهاد آخر هو «اتصال الجهود»، واستعاد من إرث المعتزلة مفردة «الكوّان» أي الخالق.
وبموازاة حفره في اللغة، أثار هذا القومي، والعروبي، والوحدوي جدلاً فكرياً، خصوصاً من خلال أطروحته الشهيرة «أين الخطأ» (1978) التي قارب فيها الجمود الذي أصاب المسلمين في مقاربتهم لدينهم. اجتهد في حديث الرسول «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار»، مفسراً النار على أنها البترول في القرن العشرين. وتحت شعار «الناسيّة المحمدية» التي رأى أنّ جميع الناس شركاء فيها، صاغ صاحب «المعرّي ذلك المجهول» أنساقه الوحدوية والتكافلية، وكان من مؤسسي الحزب التقدمي الاشتراكي. منذ ذلك الحين، لُقِّب بـ«الشيخ الأحمر» من باب «التشهير» ربّما، والكاريكاتور والتسطيح غالباً، لا اعتزازاً بنزعته التقدميّة والتنويريّة... ذلك أن مَن أطلق عليه هذا اللقب لم يفهم أن الشيخ عبد الله كان اشتراكيّاً وتقدميّاً بفطرته وإسلامه.
عاصر العلايلي أهم التحولات السياسية التي مر بها لبنان والعالم العربي بدءاً من سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924، وصولاً الى اغتيال كمال جنبلاط عام 1978 الذي نقل عنه إحساسه بالموت مقتولاً، إذ قال: «إن جنبلاط فجأة ـــــ وعلى غير انتظار ـــــ راح يتمتم بابتسامته العذبة لكأنما يناجي نفسه أو يناجي من ليس بمنظور، أتعرف أنني سأموت قتيلاً؟». وعندما سأله العلايلي عن سبب هذا الكلام، أجابه: «لا أدري قد يكون حدساً أو حلم يقظة، أو وساوس غد مجهول... لكني أراه كشيء مسطور».
لم يكتف العلايلي بدائرته العربيّة. دعا إلى العالمية التي تنطلق «من الاعتقاد بالوحدة الحضارية العالمية». دعوته أدرجها تحت مفهوم «التطور الدائم»، ما يستدعي التعرف إلى الآخر المكوّن للذات، «فهو يُعرف بي، وبه أُعرف». وضع العلايلي عدداً كبيراً من المؤلفات من بينها «مقدمة لدرس لغة العرب» (1938)، و«الحزب بوتقة تصنع الأمة» (1941)، و«دستور العرب القومي» (1941) و«المعجم الكبير» (1954)، و«تهذيب المقدمة اللغوية» ( 1968). لكنّ قلة من الناس تعرف أنّ له إرثاً شعرياً في الحب والصوفية والتجديد، هو القائل: «القُبلة العاشقةُ المفعمة لا تكون آخر الرِّيّ بل أول الظمأ، ولا تكون خاتمة الغرام، بل بداءة فصل جديد، لا تُطعم القُبلة إلّا في متابعة القُبلة، ولا تكون الراحة فيها إلّا بمعاودتها».
أمام تراثه، يشعر كثيرون بالحرج. قراءة أطروحاته في فقه اللغة والاسلام والاصلاح، والاجتهاد والمجتمع والعالمية الحضارية والتكافلية، تعدّ وحدها جهداً تأسيسياً. العلّامة كان «يعرف الكثير، ومن يعرف يسأل، والسؤال مفتاح المعرفة» كما قال عنه هاني فحص. وكم يحتاج العرب اليوم الى عالِم بعبقرية عبد الله العلايلي الذي قارع التقليد، وعاش إسلامه التوحيدي في ظل مناهج العقل الفلسفي والجدالي.

مؤلّفات العلايلي منشورة عند «دار الجديد» في بيروت. للاستعلام: 01/739850
[email protected]