بين خطابي الرئيس التونسي زين العابدين بن علي الأول والثاني، هدأ الموقف قرابة أسبوع. كان المواطن خلاله يترقب إجراءات عاجلة ومبادرات تسهم في تنفيس الاحتقان العام، ومداواة جراح الناس. لكن لم يحصل شيء من هذا القبيل، بل إن الأسبوع الفاصل بين نهاية السنة الماضية واشتعال الأحداث من جديد في السابع من الشهر الحالي، شهد تعزيزات أمنية جديدة من فرق «النسور السود» و«فرق الشرفاء». والفرق الأولى هي عبارة عن ميليشيات مدنية استحدثها نظام بن علي في السنوات الأخيرة لتكون سور حماية للنظام في اللحظات الحرجة، وعززها بالفرقة الثانية (الشرفاء)، التي تتكون من مجموعات من المتطوعين المدفوعي الأجر. وقد نفّذ هؤلاء، خلال الأيام الثلاثة الماضية، مهماتهم، فكانت حصيلة القتلى 35، حسب المعارضة وقرابة 30 وفق معلومات الأوساط الإعلامية الغربية، و14 تبعاً لرواية النظام. وتؤكد المعلومات الواردة من تونس أن هذه الفرق واجهت المتظاهرين بوحشية كبيرة، وكانت تطلق النار عليهم عن قرب. وقد جرى التأكد من عدة إصابات في الرأس، وهذا يعني أن التصويب جرى عن عمد وبقصد القتل. ونقلت وكالة «فرانس برس» صورة معبرة في هذا الصدد. وتفيد الشهادات المستقاة عبر الهاتف من أوساط تونسية في الداخل والخارج بأن فرق الموت، التي احتلت الشارع، أطلقت النار على بعض الجنازات، كما حصل بعد ظهر أمس في القصرين، وهو ما يفسر وقوع عدد كبير من الجرحى، وكان هدفها منع تحول الجنازات إلى مواكب وطنية، وأن تحول دون تطور حال الاحتجاج الواسعة إلى عصيان مدني.
طوال هذا الوقت كان بن علي ينتظر أن يحسم الأمن الموقف، وأن يكسب الجولة بالعنف من دون أن يقدم أي تنازل، وذلك في الوقت الذي كان فيه إعلام النظام يتحدث عن التهدئة ويجزل الوعود بحلول سحرية وعاجلة لمشكلة البطالة، بل إن بن علي نفسه بدا متأثراً وهو يقف في المستشفى أمام الشاب الذي أحرق نفسه. وأراد أن يقدم صورة مختلفة عن نفسه، صورة الرئيس الذي انفطر قلبه ألماً لانتحار شاب من أبناء وطنه. وثمة شائعات في تونس تقول إن بن علي زار الشاب بوعزيزي بعدما فارق الحياة، والتقط صورة معه بناءً على نصيحة من مستشاريه. مساء التاسع من الشهر الحالي، وفي ذروة فورة الدم، تناقلت الوكالات خبراً عن أن بن علي سيطل تلفزيونياً لكي يعلن عن مبادرة للتهدئة، وطال الانتظار حتى منتصف الليل، لكن الرئيس بقي معتصماً بالصمت، بينما تواصل سفك الدماء في الشوارع على يد «النسور» و«الشرفاء».
وتقول أوساط تونسية إن النظام سرّب معلومات عن إطلاق الجيش النار على المتظاهرين. وقالت الرواية الرسمية إن ذلك حصل في إطار دفاع عناصر الجيش عن أنفسهم. لكن أوساط جمعية المحامين التونسيين في باريس تفيد بأن الجيش بقي على مسافة من الأحداث، وحرس المباني الحكومية، التي لم تتعرض لأي هجمات، فيما انصبّ غضب المتظاهرين على مقارّ الحزب الحاكم ومراكز الأمن وبعض المشاريع السياحية الاستثمارية العائدة لبطانة بن علي وعائلته.
وحينما كسر بن علي حاجز الصمت مساء أمس، لم يقدم جديداً في خطابه الثاني خلال عشرة أيام، بل أبدى تصلباً لا يتماشى مع سياق الأحداث. وبدلاً من أن يقدم مبادرة للتهدئة، ألقى كلمة تصعيدية تضمنت قدراً كبير من الشتائم والاتهامات للمتظاهرين، الذين وصفهم بـ«المجرمين» و«المشاغبين» و«عصابات ملثمة تسيّرها أيادٍ خارجية». وعاد من جديد ليجزل الوعود بحلول عاجلة لمشاكل البطالة، وتعهد برصد مبالغ مالية من أجل ذلك، وعقد ندوة وطنية في الشهر المقبل بمشاركة الحكومة والأحزاب والهيئات المختصة لوضع استراتيجية لتشغيل حاملي الشهادات العليا. ويرى مصدر تونسي معارض في باريس أن بن علي أغفل الجانب السياسي للأحداث، ولم يتطرق إلى مسألة الدم الذي أُريق خلال ثلاثة أسابيع من انتفاضة الخبز. وكان حريّاً به أن يعلن تأليف لجنة للنظر في هذه المسألة ومحاسبة المسؤولين عن إطلاق النار على المتظاهرين، والإفراج عن معتقلي الأحداث.
وفي إشارة إلى القلق من تطورات الاحتجاجات، قررت السلطات التونسية تعليق الدروس في جميع المؤسسات التعليمية ابتداءً من اليوم وإرجاء الامتحانات الباقية بالتعليم العالي. ولم تحدد مدة هذا التوقيف، مشيرة إلى أنّ استئناف الدروس وإجراء الامتحانات سيُعلَنان لاحقاً.
إن الجديد في الأزمة التونسية هو أنها بدأت بتحريك الموقف الدولي، وللمرة الأولى طالبت مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون السلطات التونسية بالإفراج فوراً عن الأشخاص الذين يتظاهرون سلمياً، ولا سيما المدونون على الإنترنت والصحافيون والمحامون. وحثت على الامتناع عن استخدام القوة واحترام الحريات الأساسية.
من جهته، حثّ المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية برنارد فاليرو على «التهدئة»، معرباً عن حزنه لسقوط ضحايا. وقال: «تواجه تونس مشاكل اقتصادية واجتماعية، لن يتمكن التونسيون من تجاوزها إلا من خلال الحوار». وفي انتظار خفوت التظاهرات، حسب رغبة الحكومة، إن بالتعب أو القمع أو الإحباط، لا يمكن التونسيين إلا أن يبتلعوا وعوداً، كثيراً ما جاءت عقب تظاهرات واحتجاجات سابقة، لكنها سرعان ما تبخرت حين استعاد النظام زمام المبادرة.
لقد تحدثت الحكومة عن استعدادها تحريك عدة مليارات من الدولارات، لحل المشاكل، وقد اعترفت، بالفعل، بوجود «أساس شرعي» لهذه الاحتجاجات، لكن لا ضامن لتنفيذ هذه الوعود، ومعاقبة المسؤولين عن إراقة الدم، الذي سال على نحو غير مسبوق. وليس أكثر من الضحك على الذقون، خروج بن علي، بعد أكثر من ثلاثة أسابيع على الاحتجاجات، ليقول للمواطنين: «رسالتكم وصلت». وكأن البريد بطيء، كما قال مرة الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة: «بطيءٌ بريدُكَ يا وطني، والرسائلُ لا تصل....»
لكن من الدروس المستفادة من الأمر، أن التظاهرات، في أساسها حمام الدم المتواصل، نجحت أخيراً في إخراج المعارضة التونسية من صمتها «الطوعي»، حيناً، و«المفروض» أحياناً، فبدأ الشعب التونسي يسمع عن معارضين وعن أحزاب ونقابات تؤيد المطالب العادلة لقضاياه. ولم يكن أحد يتصور مثل هذه الجرأة التي كانت تقود أصحابها، في أوقات سابقة، مباشرة إلى السجون. ولعل الأمثلة لا تنقص في بلد زين العابدين بن علي.