ينتمي الربيع العربي 2011، بالنسبة إلى عدد من المثقفين اليساريين، الى صنف نادر من الأحداث التاريخية: سلسلة من الاضطرابات السياسية، الواحدة تشعل الآخرى، على امتداد منطقة كاملة من العالم. ثمة فقط ثلاثة أمثلة سابقة في التاريخ: حروب تحرير اميركا الجنوبية من الاستعمار الاسباني بين 1810 و1825؛ الثورات الاوروبية في فترة 1848 ــ 1849؛ وسقوط الانظمة في الكتلة السوفياتية في فترة 1989 ــ 1991.يشبّه المثقف البريطاني ـــــ الباكستاني طارق علي الانتفاضات العربية الراهنة بأحداث أوروبا 1848، عندما شَمل الصخب الثوري كلّ أوروبا باستثناء بريطانيا وإسبانيا. يرى علي أنّ العرب اليوم، مثل الاوروبيين في 1848، «يحاربون ضد السيطرة الاجنبية؛ ضد انتهاك حقوقهم الديموقراطية؛ ضد نخبة أعمتها ثروتها الغير مشروعة ـــــ ودفاعاً عن العدل الاقتصادي». ويميز علي بين ذلك وبين الموجة الاولى للقومية العربية التي كان همها الأساسي «طرد بقايا الامبراطورية البريطانية خارج المنطقة». وقد عبر ذلك عن نفسه بوضوح في تأميم المصريين، بقيادة جمال عبد الناصر، لقناة السويس، تبعه «عدوان ثلاثي» على مصر شنته بريطانيا، فرنسا وإسرائيل في 1956.
بالفعل، فإنّ خاصيتين اثنتين قد انفرد بهما العالم العربي طويلاً في العالم السياسي المعاصر. الاولى هي طول أمد وتجذّر الانظمة الاستبدادية ـــــ أكانت ملكية أم جمهورية ـــــ في أعقاب انتهاء الفترة الكولونيالية، وذلك على نحو لا مثيل له في العالم المعاصر. والثانية هي طول أمد وقوّة الهيمنة الغربية على المنطقة، على امتداد القرن الماضي. وبالرغم من أنّ الكولونيالية وصلت متأخرة الى معظم العالم العربي، مقارنةً بمناطق آخرى من العالم، مثل جنوب شرق آسيا أو أميركا اللاتينية، ترافقت مناهضة الكولونيالية في العالم العربي، خلافاً لأي من تلك المناطق، مع تسلسل يكاد يكون غير منقطع من الحروب والتدخلات الغربية الامبريالية في الفترة الما بعد كولونيالية. فمنذ الحرب العالمية الثانية، شهد كلّ عقد من الزمن تقريباً، حصته من العنف، أكان محلياً ( أهلياً) أم عبر حروب خارجية: نكبة فلسطين في الاربعينيات التي قامت على أنقاض الثورة الفلسطينية الكبرى بعدما قمعتها بريطانيا بالقوة العسكرية في 1938 ـــــ 1939؛ في الخمسينيات، العدوان الثلاثي على مصر؛ في الستينيات، حرب حزيران 1967 التي شنتها إسرائيل على مصر، سوريا والاردن؛ في السبعينيات، حرب أكتوبر 1973 وكبح نتائجها على يد الولايات المتحدة؛ في الثمانينيات الاجتياح الاسرائيلي للبنان وقمع الانتفاضة الفلسطينية؛ حرب الخليج الاولى في التسعينيات وصولاً الى اجتياح الولايات المتحدة وحلفائها للعراق واحتلاله في 2003. لكن النزاعات العنفية ذات المنشأ المحلي، انتشرت ايضاً في العالم العربي عبر العقود: الحرب الاهلية اليمنية في الستينيات؛ الحروب الأهلية اللبنانية في السبعينيات والثمانينيات؛ والاجتياح العراقي للكويت في التسعينيات. غير أنّ التورّط أو التواطؤ الغربي في هذه الحروب، نادراً ما كان غائباً، أكان من حيث الدعم أم التمويل.
أسباب هذا التدخل الاستثنائي الغربي في العالم العربي واضحة. من جهة، هو يحتوي على أكبر احتياط نفطي في العالم، الذي بدوره يعدّ مادة حيوية للاقتصادات الغربية. ومن جهة أخرى، هو المكان الذي زُرِعت فيه إسرائيل وتجب حمايتها من قبل الولايات المتحدة، موطن اللوبي الصهيوني الذي لا يجرؤ أي رئيس أو حزب أميركي على مواجهته، ومن قبل أوروبا التي لا تزال تعاني عقدة الذنب تجاه المحرقة النازية ضد اليهود، خلال الحرب العالمية الثانية.
هاتان الخاصيتان الاساسيتان للعالم العربي، أي الهيمنة الغربية المستمرة وغياب المؤسسات الديموقراطية، ارتبطتا على مر العقود، دون ان يعني ذلك أنّ ثمة علاقة سببيّة مباشرة بينهما. السجلّ التاريخي للغرب في ما يتعلق بالديموقراطية يتحدث عن نفسه: حين بدا أنّ الديموقراطية تمثّل خطراً على الرأسمال الغربي، لم تتردد الولايات المتحدة وحلفاؤها في إطاحتها، كما تشهد على ذلك مصائر محمد مصدّق في إيران في 1953، سلفادور ألليندي في تشيلي في 1973 وأخيراً جان ـــــ برتراند أريستيد في هاييتي. وعكساً، حين يكون وجود الاوتوقراطيات ضرورياً، يصار إلى دعمها وحمايتها، بدءاً باتفاق الرئيس الاميركي فرانكلين روزفلت مع آل سعود في الاربعينيات، وصولاً الى الدعم الاميركي لنظام علي عبد الله صالح في اليمن. طبعاً، لا يعني ذلك أنّ تلك الانظمة هي صنيعة الغرب أو الولايات المتحدة، إذ إنّ لكلٍ منها جذوره في المجتمع المحلي، بغض النظر عن الدعم الغربي. لذلك، ليس مفاجئاً، في هذا المشهد العربي، أن تكون الحرية هي المطلب الاساسي للتظاهرات الشعبية السلمية التي رفعت، في بلد عربي تلو آخر، شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». لكن الانتفاضات العربية الراهنة دلّت أيضاً على الصلة الوثيقة بين الحرية والعدالة، إذ كان للطبقات الشعبية دور أساسي في الدعوة الى إسقاط الانظمة التسلّطية في تونس ومصر.
في الواقع، ثمة حاجة إلى إعادة ربط الحرية بالعدالة والمساواة الاجتماعيتين. فمن دون الملاءمة بين هاتين القيمتين، لا يتوقع أن تختلف إجابات الانتفاضات العربية الراهنة عن سابقاتها من الانظمة التسلّطية، بخصوص القضايا والمسائل الاجتماعية المتفجرة، مثل تفشي البطالة والفقر والامية، بالاضافة الى الاحساس العام لدى الشباب العربي بكبت طاقاته الانتاجية والتعبيريّة. يتطلّب كلّ ذلك، كما يلاحظ عن حق مايكل هاردت وأنطونيو نيغري، «رداً دستورياً راديكالياً»، يضع «خطة عامة لإدارة الموارد الطبيعية والانتاج الاجتماعي». ويتابع الرجلان: «هذه عتبة لا يمكن النيوليبرالية أن تجتازها وتضع الرأسمالية تحت المساءلة».
من هنا فإنّ الأولوية لأيّ دور متجدّد ومحفّز لليسار في العالم العربي يجب أن تكون النضال من أجل حريات سياسية، تسمح بملاقاة واستيعاب مطالب العدالة الاجتماعية، أي تحصين عملية التغيير الديموقراطي السياسي والقانوني، عبر رفده بمضمونه الاجتماعي. وهذا يعني، من جهة، الدفاع عن الانتفاضات العربية الراهنة في وجه قوى الثورة المضادة التي تريد الإبقاء على مؤسسات ودساتير النظام القديم؛ والمطالبة بمحاسبة رجال النظام القديم عن مسؤوليتهم في نهب المال العام وقمع وقتل المتظاهرين؛ ودفع عملية التغيير الديموقراطي الى نهايتها عبر استبدال مؤسسات ودساتير النظام القديم بمؤسسات ودساتير الدولة الديموقراطية المدنية التي تساوي قانونياً وسياسياً بين مواطنيها، رجالاً ونساءً؛ كذلك، تجسيد اختيار المواطنين لحكّامهم في نظام برلماني ديموقراطي، يضمن لهم مساءلة الحكّام ومحاسبتهم وتغييرهم عند الضرورة. ومن جهة آخرى، السهر على سنّ دساتير جديدة تحمي الحاجات الاجتماعية وتشرّع الحقوق بالرعاية العامة لفئات الشعب ذات المداخيل الدنيا.
وهذه أولوية تكتسب أهمية مضاعفة في ظل غياب النقاش الجدي حول الحقوق والقضايا الاجتماعية، والتوّقع بأن تكون المعارك الانتخابية المستقبلية منافسات بين التيار الليبرالي والتيار المحافظ، المتمثّل بشكل الإخوان المسلمين والمتماهي مع نموذج «حزب العدالة والتنمية» التركي الذي أظهر، الى يومنا هذا، مدى ولائه للسياسات النيوليبرالية.
* باحث لبناني