تحدّث الرئيس زين العابدين بن علي عن المعجزة التونسية، ومؤامرة الأصابع الملثّمة على بلاده. الرئيس مبارك تحدث قبله عن الأصابع، لكنّها لم تكن ملثّمة. وتحدث عن المؤامرة، والأفعى التي سيدقّ رأسها حفاظاً على الأمن القومي. الرئيس بوتفليقة صامت، لكن صحافته لم تبتعد كثيراً عن حديث الأصابع والمعجزات.حكّام يدافعون عن أنظمتهم في لحظة تحلل وانفلات. يستخدمون أساطير وخرافات سياسية، ويخافون من عدوى الغضب. صور الضحايا بليغة، إلى حد أنّها بيان احتجاج علني، كما يبدو من انتحار شاب تونسي بالصعق الكهربائي أمام الناس.
الدول تضيق بما لم يعد محتملاً، والهجرة العلنية والسرية حلم ثمنه الموت أحياناً أو الحياة بمشاعر الدرجة الثانية غالباً. ذلك بينما الحكام يتحدثون عن معجزات، وأصابع، فيما تنفلت هذه البلاد الى مصير غامض إلا في العنف، حيث تسقط الضحايا الآن برصاص حي (في تونس ٢٠ قتيلاً) أو بشظايا مواجهات مع الشرطة (٤ قتلى في الجزائر) أو بتفجير يستهدف طائفة (١٠٠ بين قتيل وجريح في مصر).
فاتورة دموية يدفعها الشعب الذي خرج منه الحكام، وكلّهم أبناء سلالة التحرر من الاستعمار. مبارك هو الجيل الثالث من جنرالات دولة تموز، وبن علي وريث بالقوة لحكم المجاهد الأكبر، وبوتفليقة الوريث الناعم لجبهة التحرير بعد سنوات العنف والدم.
مصر مستقرّة سياسياً، بعد حرب قصيرة مع الإرهاب. وتونس تحت القبضة، لكنّها تتمتع أكثر ببناء دولة حديثة، لا تزال الجزائر بعيدة عنه، بوقوعها في فجوة «شرعية التحرير» و«شرعية الدولة المنتصرة على الإرهاب».
كلّها أنظمة بوليسية، تحكم بالعصا والنار، تحت أقنعة ناعمة. وكلّها في تحالفات مع المستعمر القديم والجديد. تحالف يستبدل بناء الدولة بصنع نموذج على هوى المؤسسات الدولية.
لا شيء في كل هذه الدول أكبر من أجهزة الأمن، وبجانبها مؤسسات تعيد هيكلة نفسها لتتوافق مع الحليف الدولي. والدول التي ولدت عفواً مع رغبات الشعب في صنع «دولة وطنية»، حوّلتها شهوة السلطة الى مستعمرات للقمع والقهر والشعور بالإذلال في مواجهة «استعمار وطني»، لا يسمح لقوة واحدة بالظهور لمقاومته حتى.
هكذا يظهرالشبح بقوة من الجنوب. ليس الانفصال، بل السر الذي قامت عليه دول ما بعد الاستعمار. سرّها الذي تبدو أنّها تضيّعه الآن، على يد ورثة دولة ما بعد الاستعمار.
دولة ما بعد الاستعمار تتفكك في السودان، وتخرج مجتمعاتها من أسر القبضات الحديدية في مصر وتونس والجزائر، واليمن أيضاً، كأنّها إشارات بداية مرحلة إعادة تكوين لدول المنطقة العربية، لكن هذه المرة ليس وفق خريطة «الاستعمار»، كما حدث أيام صراع الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية في أول القرن العشرين، ولا على خريطة ما بعد الحرب الباردة، وانفجارات القمع في دول أوروبا الشرقية، بل في مصير مرعب، لأنّه يبدو صراعاً مع ديناصورات عجوزة لكنّها قضت على كل القوى المعارضة لها.
الانفلات في دول ما بعد الاستعمار مرعب، لأنّه يبدو كأنّه يميل الى فوضى عمياء، كما يحدث في مصر، والجزائر، ومع بعض الاختلاف تونس. هناك يبدو حضور تنظيم نقابي قوي إشارة إلى ما يشبه «انتفاضة»، لها جهاز سياسي ومطالب، لا مجرد هبّات عشوائية.
يفتقد الورثة السحر الأول لزعماء التحرر الوطني، وتنتشر اليوم صور ضحاياهم من أهل بلاد، تعلقت بذيل الحاكم الوطني. حاكم بدا في تجليّاته الأخيرة، أكثر قسوة من استعمار كان هدفه واحداً: استغلال ثروات البلاد.
وفي مصر وتونس والجزائر، ضحايا يوميون تقريباً، لاستمرار أبدي في الحكم من دون مبرر، إلا شهوة تبرر نفسها بإنقاذ البلاد. كلّهم منقذون يذبحون من أنقذوهم.
الانفصال في الجنوب لم يزعج البشير. بدا لامبالياً في ظهوره العلني، وفي تحالفاته السياسية، كأنّه ارتاح لفكرة حكم دولة نقية العنصر. كأنّه مبشّر لأنظمة حكم قبائل، لا دول. نموذج جديد يصيب حكام دول ما بعد الاسستعمار بالرعب، لأنّهم يدركون أنّ سرهم يكمن في توحيد البلاد. السودان مختلف، لكنّه يلهم بلاداً عاشت في انتظار عودة المستبدّ العادل.