لم يمر وقت طويل على استشهاد القائد الجهادي عماد مغنية، حتى شُغل كثيرون بالسؤال عن خليفته. إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة وجهات أوروبية وعربية، بدأت تسريب توقعات وتقديرات. وكان البارز في الأسماء، مصطفى بدر الدين. وكعادتها، تطوعت الصحافة المعادية لتقديم التفاصيل. «السياسة» الكويتية، التي اشتهرت بتسريب المعلومات المعادية لحزب الله وسوريا، سارعت إلى تقديم عرض عن بدر الدين. قالت إنه هو نفسه إلياس صعب، الرجل الذي يتحمل مسؤولية ما حصل في الكويت في ثمانينيات القرن الماضي، وإنه أُوقف وسجن قبل أن يستغل الغزو العراقي للإمارة والهروب من السجن.
ظلت إسرائيل المصدر الأول للمعلومات عن بدر الدين. هي تعرفه منذ زمن بعيد، ولكنها حارت في الدور الذي أدّاه في العقد الأخير. وبعد إعادة تشكيل الهيئة القيادية للمجلس الجهادي في حزب الله إثر استشهاد مغنية، بذلت الاستخبارات الإسرائيلية، ومعها الأميركية، جهداً كبيراً في جمع المعلومات عن تركيبته وهويات من يشغله. ويعتقد على نطاق ضيّق، أن «م. ح» المعروف باسم «أبو تراب»، الذي أوقفه جهاز مكافحة التجسس في المقاومة قبل أسابيع وأقر بعلاقة قديمة مع وكالة الاستخبارات الأميركية، يعتقد أنه قدّم لمشغليه معلومات عن هيكلية قيادة المقاومة، وهو أمر متاح له من حيث المعلومة، وإن كان الرجل لا يملك قنوات اتصال تنظيمية تتيح له معرفة الأمور الحساسة التي تركز عليها إسرائيل لجهة أماكن مخازن القوة الصاروخية، ومحتويات «صندوقة المفاجآت»، بالإضافة إلى أماكن وجود القيادات الرئيسية في المقاومة، وخصوصاً الأمين العام السيد حسن نصر الله. لكن إسرائيل حصلت من الولايات المتحدة على معلومات قدمها هذا العميل عن أشياء كثيرة، يرجَّح أن تكون من بينها معلومات عن مصطفى بدر الدين وآخرين من قيادات المقاومة.
وإذا كانت مصادر المعلومات القريبة من التحقيق الدولي تزعم أن دانيال بلمار وفريقه علما في فترة متأخرة أن بدر الدين هو نفسه سامي عيسى الذي يبحثون عنه بصفته الرأس المدبر لعملية اغتيال الحريري، فثمة وقائع كثيرة تشير إلى أن اسم الرجل طرح قبل وقت طويل، وعندما أشارت مجلة دير شبيغل إليه قبل أكثر من عامين، ثم أشارت إسرائيل إليه مرة جديدة قبل نحو عام على الأقل، ثم ما سربته أوساط فريق 14 آذار خلال كل الفترة، يعيد هذا إلى الأذهان أن تسليط الأضواء على الرجل حصل فعلاً بعد غياب مغنية، والحديث عن أن بدر الدين هو من خلفه في منصبه. علماً بأنه يمكن الآن الكشف عن وقائع تعود إلى صيف عام 2005 حيث كانت التحقيقات جارية بقيادة ديتليف ميليس، ويومها أُشير إلى الاسم في معرض مناقشات مع بعض الشهود أو الذين عُدّوا مشتبهاً فيهم في فترة لاحقة.
كذلك، تكشف وقائع خاصة بالتحقيق، أن فرع المعلومات في حينه، ولما كان تحت إمرة العقيد سمير شحادة، كلف مجموعات منه التحرك داخل الضاحية الجنوبية والسؤال عن أشخاص من القادة العسكريين البارزين في المقاومة.
لكن لماذا بدر الدين؟
ثمة أشياء يجدر التوقف عندها في آلية عمل المقاومة؛ فعماد مغنية ورفاقه كانوا طوال الفترة السابقة من دون اسم أو وجه أو عنوان. كان يستحيل على أحد معرفتهم إلا شهداء، وهو نمط تميزت به المقاومة الإسلامية، وخصوصاً أن آلية عملها السرية تفرض آليات تمنع على أي من العاملين في وحداتها الظهور. وإن كان بعض الأقارب والأهل والأصدقاء يعرفون أن هذا متفرغ في المقاومة، فإن ذلك لم يكن يسمح بمعرفة المزيد. لذلك، كانت المفأجاة على الدوام بالأشخاص الأبطال عندما يستشهدون. وإسرائيل، كما جهات كثيرة في لبنان والخارج، عملت على تشويه صورة القادة المقاومين. فهم لم يشيروا مرة إلى الشهيد مغنية على أنه مقاوم، بل لطالما قدموه إرهابياً مسؤولاً عن عمليات خطف وقتل أجانب وأميركيين، وأنه تولى الأمور التي تخص أعمالاً أمنية داخل لبنان وخارجه. وحدها إسرائيل كانت تطارده بصمت، بصفته عدواً رئيسياً لها. لذلك، فوجئ الغرب بأن حزب الله كان ينفي على الدوام أي معرفة بعماد مغنية، بل إن السيد نصر الله أجاب في حديث تلفزيوني عن سؤال عن عماد مغنية بأنه ليس من قادة الحزب، ولا يعرف عنه شيئاً.
الآن نعود إلى الحكاية نفسها. يتكل الغرب على أن حزب الله ليس معروفاً عنه تقديم مقاوميه بطريقة تدل على أعمالهم، لا قبل الاستشهاد ولا حتى بعده. بينما تريد إسرائيل لنا التعرف إلى هؤلاء الأبطال الآن، لكن مع لائحة وظائف تجعلهم إرهابيين وقتلة في نظر العالم وفي نظر أهلهم. وتستهدف أن يستحضر المرء ما نسب إليهم في كل إشارة إلى أسمائهم. إنها لعبة الأبلسة والشيطنة نفسها التي يعتمدها الغرب الإرهابي في وجه خصومه. هم لا يقدرون على فعل الأمر مع أسماء كبيرة مثل السيد نصر الله، لكنهم يريدون القول بأن كل قائد مقاوم إنما هو في حقيقة الأمر إرهابي مجرم وقاتل ومطلوب للعدالة الدولية. إسرائيل تعرف أنها تلاحقهم وتحاكمهم نظراً إلى ما قاموا ويقومون به بوجه احتلالها وإرهابها. لكنها تريد أن تدعي أنها تواجه إرهاباً يعمل على قتل المدنيين والقادة السياسيين، حتى تصل إلى ربط كل اسم لأي مجاهد ومقاوم بعمل إرهابي. تسعى إسرائيل هنا، ومعها الولايات المتحدة، إلى كسر الصورة الجميلة والبطولية لهذا الصنف من المقاومين التي زرعت في الوعي العام عند العرب والمسلمين وعند أحرار العالم.
تعرف إسرائيل أن بدر الدين، أو ذو الفقار أو ما تريد له من أسماء، ليس سوى قائد بارز في المقاومة الإسلامية. تعرفه إسرائيل منذ ربع قرن على الأقل. شاهده ضباطها وجنودها وهو يطاردهم في جنوب لبنان في تسعينيات القرن الماضي، ويقتل منهم المئات ويصيب المئات أيضاً. تلمست آثاره وهو يقود أعمالاً أمنية أنهكت العدو وأصابته بالمفاجأة تلو المفاجأة، وجعلت العالم الأمني يشعر بجيل جديد من المحترفين. تعرفه إسرائيل أيضاً في محطات أكثر قساوة بالنسبة إليها؛ فعندما كان عماد مغنية يخطط ومعه كوادر ومقاومون ينشطون لأجل تنفيذ عملية أسر لجنود العدو، كان هناك في مكان آخر، يقف مصطفى بدر الدين، يعد العدة لأقوى مفاوضات تتيح استعادة مئات الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين والعرب حريتهم. كان العقل المحرك لكل المفاوضات. يتحلى بصبر يعينه عليه وعي قيادة المقاومة وحكمتها. وكان يعرف حجم الجهد الذي بذل لنجاح عمليات الأسر، وبالتالي يعرف أن عليه إدارة أكثر المفاوضات تعقيداً لتحقيق أعلى النتائج الممكنة.
تعرفه إسرائيل الآن، واقفاً خلف أقوى جهاز لمكافحة استخباراتها الأمنية والتجسسية. وتعرف كيف نجح مع مجموعة من المقاومين المجهولين، في توجيه أقسى الضربات إلى أقوى أجهزة الاستخبارات في المنطقة والعالم، وكيف استطاع أن يفكك عشرات شبكات التجسس في لبنان وخارج لبنان أيضاً. وتعرفه صلباً حاداً وجاداً في الوصول إلى الأهداف المحددة له. تعرفه لا يرحم أعداءه، ولا يتراجع. وأكثر ما تخشاه إسرائيل، أن هذا الرجل قد يكون هو من يعد العدة لثأر المقاومة من العدو على جريمة اغتيال القائد مغنية. لهذه الأسباب وغيرها تريده إسرائيل، وتريده الولايات المتحدة، وتريده أجهزة أمنية عالمية، ومع الأسف أجهزة أمنية واستخبارية عربية، وربما هناك في لبنان من هو متورط في هذه اللعبة.
يطلب بلمار الرجل لأن من نصبه مدعياً عاماً، ومن فرض عليه مستشاريه ومساعديه، هو من الفريق الذي يريد رأس بدر الدين ورفاقه منذ زمن. هؤلاء يعرفون أنه يقضّ مضاجعهم في كل ما يفعلون، وأنه يقود فريقاً يحصي أنفاس عملائهم المنتشرين في بلادنا أو العاملين من دون توقف على لعبة الفتنة ضد المقاومة في لبنان وفلسطين، وهم يريدون رأس المقاومة، ولا يهتمون لأي شيء آخر.
ولأن الهدف واضح ومعروف، ولأن ما هو موجود في حوزة المقاومة من وثائق ومعطيات عن عمل كل لجان التحقيق الدولية، وحتى مجموعة بلمار نفسه، ما يكفي لتأكيد الهدف، سيظل مصطفى بدر الدين ورفاقه عناوين للبطولة وللشرف الوطني، بعكس جيش الخونة الذي أطل برأسه في لبنان بمجرد صدور قرار بلمار الاتهامي. هؤلاء الذين ينتشرون على شكل شخصيات سياسية ووجوه إعلامية وكتبة منافقين، ولم يعد من اسم يستحقونه سوى «الخونة».
بعد الذي حصل، ليس هناك ما يحتاج إليه المرء ليتأكد من أهداف الغرب وإسرائيل. لكن ما يحتاج الخونة إلى معرفته، أن ما لم يقله السيد حسن في كلمته أول من أمس، أنه لن يكون بمقدور أحد توقيف هؤلاء. وإذا تسنى لأحدهم مدّ اليد، فهي ستقطع من دون مراجعة أو تفكير؛ لأنها مثل يد إسرائيل التي يعرف المقاومون واجبهم وكيفية التعامل معها إذا ما امتدت إلى أرض أو إنسان في لبنان.