لا أحد يعرف إن تناهت إلى مسامع الرئيس رفيق الحريري ذات يوم عبارة كان أول مَن قالها، لأول مرة، أحد أكبر الأثرياء النافذين مالاً وسياسة عرفهم لبنان، هو يوسف بيدس مؤسس بنك إنترا ورئيسه. عبارة بيدس تلك شبيهة، ولكنها سبّاقة على العبارة التي قالها الحريري بعد أقل من أربعة عقود: لا أحد أكبر من بلده. كثيرون يذكرون، بالتأكيد، عبارة الحريري، وأخصّهم نجله رئيس تيّار المستقبل الرئيس سعد الحريري الذي يستشهد بها باستمرار، في معرض إبراز تواضعه وزهده بالسلطة والتعلق بالإرث السياسي الذي خلفه له والده الراحل. لكن قلّة من هؤلاء الكثيرين لا يتذكرون العبارة الأم لبيدس؛ لأن تعاقب الأجيال والأحداث والتجارب والرجال يحجب أحياناً وقائع بالغة الأهمية ويلقيها في النسيان. وفي الغالب، يتمكّن البعض من إلغائها لوقت، من أجل إحياء وقائع أخرى.
حينما مثل أمام أحد قضاة المحكمة الاتحادية العليا في البرازيل، في 18 آذار 1967، قال بيدس باكياً: «اقترفت غلطة وحيدة في حياتي هي أنني جعلت نفسي أكبر من حكومة بلادي. وهذا سبب مأساتي».
من خلال بنك إنترا الذي أسسه عام 1951، امتلك بيدس، الفلسطيني الأصل، إمبراطورية مالية واقتصادية ضخمة وصلت إلى أقاصي القارات، وأتاحت له بطموح خيالي دمج السياسي بالمالي كي يصبح في ما بعد هدفاً سياسياً بمقدار ما كان هدفاً مالياً لتقويضها. زادت موازنة إمبراطوريته تلك ذات مرة خمسة أضعاف موازنة الدولة اللبنانية إلى أن انهارت، وأفلس المصرف عام 1966 وقد عُدّ الأثرى والأوسع تأثيراً ونفوذاً في لبنان من وطأة الشركات والعقارات الضخمة التي كان يملكها في هذا البلد والعالم.
غادر بيدس إلى البرازيل بعد ملاحقته، فاعتقل هناك بطلب من لبنان وسُجن، ثم أطلق وتوفي عام 1968 ودفن في سويسرا. اتهم السلطة اللبنانية بأقوى رموزها السياسية والأمنية وأعلاها حينذاك بدءاً من رئيس الجمهورية، وبأبرزها الشعبة الثانية، بالاضطلاع بدور محوري لإفلاسه رغم الحجم المتضخّم الذي أحاط بمجازفاته المالية والسياسية، والانخراط في أكثر من لعبة سياسية داخلية ـــــ على صغر دور لبنان في عقد الستينيات ـــــ ودولية.
بعد انقضاء كل هذا الوقت، لا أحد يعرف أيهما سبّب انهيار إمبراطورية بيدس: المال أم السياسة، أم الاثنان معاً؟ حجم فرد أكبر من الدولة التي عمل في ظلّها، أم الشائعات التي اختلط الأمني فيها بالسياسي؟
كانت العبرة المثلى في ما قاله بيدس أمام القاضي مشابهة إلى حدّ التطابق بينه وبين تلك التي أطلقها في ما بعد، في حديث تلفزيوني، الحريري الأب، وباتت اليوم شعاراً يتلاعب به أفرقاء النزاع. ينصح الحريري الابن خصومه بالتواضع، وينصحه سياسيو 8 آذار بالتسليم بالحجم الطبيعي.
ورغم مظاهر التواضع التي أضفاها الحريري الأب على تصرّفاته كثريّ كبير ذي شبكة علاقات دولية متشعّبة وسياسي استثنائي، مرآة لجذور كانت كذلك، بدا دائماً ـــــ في الداخل والخارج ـــــ أنه أكبر من دولته، عندما كان يقودها إلى خيارات سياسية واقتصادية غير مألوفة، على الأقل في السنوات السبع الأولى من وجوده على رأس الحكومة اللبنانية. إلى حدّ بات في وسعه اختصار بلده في نفسه، فأمسى إذ ذاك عبئاً على توازن القوى ومعادلة الأحجام المتداخلة في الصراع السياسي اللبناني.
وخلافاً لبيدس الذي قال عبارته بعدما هزمه نفوذه، قبل أن يموت على فراش المرض، أطلقها الحريري الأب في ذروة قوته في الحكم والشارع. مع ذلك، اغتاله دوره وموقعه في منطقة تغلي بتقاطع المصالح وتضاربها وتفاقم النزاعات الإقليمية وتصفية الأحجام.
واقع الأمر، انطوى لبّ ما قاله الحريري الابن في حديثه التلفزيوني مساء الثلاثاء، على الخلاصة الآتية:
1 ـــــ قطع الجسور أو يكاد مع كل ما يحتاج وإياهم إلى إبقاء الحوار، بل الاتصال حتى، مفتوحاً في سبيل ضمان الاستقرار، واستثنى رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط. أوصد الأبواب دون الرئيس السوري بشّار الأسد عندما انحاز الحريري إلى معارضيه وتحدث عن جرائم يرتكبها النظام، ودون رئيس الجمهورية ميشال سليمان عندما جرّده من موقعه التوافقي وخطاب القسم، ودون رئيس المجلس نبيه برّي عندما لم يعد يرى فيه شريكاً لأنه يحمي المتهمين الأربعة باغتيال والده، ودون الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله؛ لأن لا حوار يصلح معه بلا شهود. فضلاً عن كل النعوت التي أطلقها بحق رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والرئيس ميشال عون.
بذلك، ألغى تماماً أدوار الوسطاء كسليمان وجنبلاط، وأصبح في مواجهة خصوم باتوا ـــــ في ضوء ما قال ـــــ أقرب إلى أعداء يُفرّق بينه وإياهم الحكم الذي هو مصدر الاشتباك أيضاً.
2 ـــــ جميع هؤلاء، بمَن فيهم الزعيم الدرزي، معنيون بدرجات متفاوتة بإسقاط حكومته أولاً، ثم بإخراجه حتى إشعار آخر من رئاسة الحكومة. وتمثل هذه الإطاحة مغزى حملة الحريري على خصومه جميعاً، سواء الذين سبّبوا إسقاط حكومته كبرّي وحزب الله وعون، أو الذين افتعلوا إخراجه من الحكم بقرار مباشر كالأسد ونصر الله، أو الذين تواطأوا على الحؤول دون عودته إلى رئاسة الحكومة كرئيس الجمهورية وميقاتي، أو الذين تسببوا بقلب الغالبية النيابية رأساً على عقب كجنبلاط.
3 ـــــ يعبّر إقصاء الحريري عن رئاسة الحكومة، في اعتقاد الغالبية الجديدة على الأقل، عن الإنجاز الأهم في إدارة الصراع السياسي بينها وقوى 14 آذار منذ أحداث 7 أيار 2008، على نحو بدا يعدّونه إنجازاً مكمّلاً لانقلاب الشارع بانقلاب دستوري. مغزى ذلك إبراز حقيقة يستعيد من خلالها الحريري الابن خلاف والده مع الرئيس إميل لحود عام 1998، وهي أن في الإمكان حكم لبنان وتنظيم علاقاته وسياساته الداخلية والخارجية من دون أي أحد من الحريري، والاعتقاد كذلك ـــــ على طرف نقيض ممّا قاله رئيس تيّار المستقبل ـــــ باستمرار حكومة ميقاتي إلى موعد انتخابات 2013.
4 ـــــ ظلّ التسليم ببقاء الحريري على رأس السلطة الإجرائية جوهر أي تسوية بينه وقوى 8 آذار، وحزب الله خصوصاً. وكَمَنَ هذا الشرط في صلب ورقتي التسوية قبل إطاحة حكومة الوحدة الوطنية وبعدها: الورقة السعودية ـــــ السورية، ثم الورقة القطرية ـــــ التركية في 18 كانون الثاني بعد ستة أيام على إسقاط حكومة الحريري المكمّلة للورقة الأولى، بحيث يحمل الحريري وزر تطبيق التسوية، وهو رئيس للحكومة. تحدّثت الورقة السعودية ـــــ السورية عن «رئيس مجلس الوزراء» من دون أن تسمّي الحريري وكانت تعنيه حكماً، وتحدّثت الورقة القطرية ـــــ التركية عن «رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد الحريري».
كان بقاؤه رئيساً للحكومة في صلب الجهود التي بذلتها الرياض في الحوار الذي أدارته مع دمشق على مرّ الأشهر الممتدة بين تموز 2010 وكانون الثاني 2011.
ذروة الإصرار السعودي على وجود الحريري على رأس الحكومة اللبنانية، كان ما أبلغه، في أول جهود التفاوض الجدّي بين العاصمتين، وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل إلى نظيره السوري وليد المعلم في دمشق، مساء 29 تموز، على أثر قمّة الملك عبد الله والأسد قبل انتقالهما معاً إلى بيروت لعقد قمّة ثلاثية مع الرئيس اللبناني في 30 تموز.
بعد المحادثات الرسمية التي أجراها الأسد مع الفيصل وعبد العزيز نجل الملك نظراً إلى أن الوضع الصحي لعبد الله لا يمكّنه من إجراء جولات تفاوض طويلة، ذهب الجميع إلى عشاء في قصر الرئاسة السورية. إبّانه قال الفيصل للمعلم: ممنوع إسقاط حكومة الحريري.
توخى الوزير السعودي من نظيره ضغط دمشق على حلفائها، وحزب الله خصوصاً، للحؤول دون أي محاولة تفضي إلى استقالة الحكومة أو إسقاطها بالقوة.
تشبّث الفيصل ببقاء حكومة الوحدة الوطنية، وبالإصرار على استمرار الحريري رئيساً للحكومة في موازاة تسوية كانت تقضي باستيعاب تداعيات سلبية محتملة تنشأ عن القرار الاتهامي في اغتيال الحريري الأب. رمت الجهود السعودية ـــــ السورية إلى تأجيل إصدار القرار الاتهامي، لا إلى إلغاء المحكمة الدولية، ودعت الجميع إلى قرارات وتنازلات موجعة قبل أن يقرّر الرئيس السوري والأمين العام لحزب الله إقصاء الحريري نهائياً عن الحكم، ذهاباً في اعتقاد تأكد أكثر فأكثر بعد تكليف ميقاتي ترؤس الحكومة، هو أن الاستغناء عن الحريري ممكن، والحكم من دونه سهل.