القاهرة | بعد ساعات من إقالة وزير الدفاع المصري حسين طنطاوي في آب (أغسطس) الماضي، شعر فاروق حسني وزير الثقافة المصري الأسبق في عصر مبارك بأنّ غطاء الحماية قد رفع عنه. اتجه فوراً إلى مطار القاهرة للسفر للعلاج، كما قال لأصدقائه، لكنّه وجد نفسه على قوائم الممنوعين من السفر. لم يتصل الوزير بأحد، فقد تغيّر العالم حوله، لم يعد لديه من يهاتفه. عاد إلى منزله ليفاجأ أخيراً بصدور قرار بتحويله إلى محكمة الجنايات بتهمة الإثراء غير المشروع، وقد بات مطلوباً منه أن يعيد 9 ملايين جنيه (مليون ونصف مليون دولار) من ثروته إلى الدولة. تحدث حسني إلى بعض أصدقائه الفنانين المدعوين إلى لقاء الرئيس مرسي (الأخبار 6و8/9/2012)، طالباً منهم أن يفاتحوا الرئيس محمد مرسي في أمره. وكان من بينهم الفنان محمد صبحي الذي تحدث عن إنجازات فاروق حسني للثقافة المصرية، وكيف تحاسبه الدولة على بعض الملايين التي لم يستطع إثبات مصدرها، رغم بقائه في الوزارة 20 عاماً.
في الوقت ذاته، اختير الوزير السابق لجائزة «رجل العام الثقافي» التي تمنحها إمارة الشارقة، وبات مطلوباً للسفر لتسلّمها، وهو ما بدأ التمهيد له في مقالات الكثير من قادة العمل الثقافي الذين عملوا مع الوزير. لم يسأل أحد ما هو إنجاز حسني الذي التزم الصمت بعد الثورة حتى تمضي العاصفة.
بالتأكيد، يستطيع حسني إثبات مصادر أمواله، وخصوصاً كما يردّد دوماً أنّ كبريات صالات عرض الفن التشكيلي تعرض أعماله، وبالتالي تبدو قضية «الإثراء غير المشروع» للإثارة أكثر من كونها حقيقة. لكن جريمة فاروق حسني الحقيقية التي ارتكبها طوال ربع قرن قضاها في وزارة الثقافة هي تجريف العقل لنصل إلى حكم الإخوان المتأسلمين الذين ترك لهم المجال لتخريب عقل مصر الثقافي، متعللاً دوماً بأنّ الخطيب الواقف على المنبر أقوى من المفكر، وأنه لا يستطيع التصدي لخطباء 120 ألف زاوية وجامع. لم يسأل الوزير نفسه: هل كانت ميزانية الثقافة محددة إلى هذا الحد أم أنّها كانت تذهب دائماً إلى كرنفالات الثقافة ومهرجاناتها الاستعراضية التي لم تكن تخرج إلى الشارع، بل ظلت في القاعات المكيّفة؟ يمكننا أن نتحدث عن وقائع مصادرات كتب ووقف عروض سينمائية ومسرحية في عهد الوزير الفنان. بإمكاننا أن نتحدث عن جرائم عديدة ارتكبها في الثقافة المصرية، ووقائع فساد أكثر. لكنّ الجريمة التي لا يستطيع أحد أن ينساها هي «محرقة بني سويف» (2005) التي راح ضحيتها 50 مسرحياً ولم يتم التحقيق فيها جدياً حتى الآن. هذا «الملف المسكوت عنه» بدأ كثيرون بفتحه ومناقشته، من بينهم المخرج المسرحي عادل حسان أحد شهود الحادث الذي لم يمل من تكرار ما جرى طوال سبع سنوات. اعتبر أنّ الحادث بفعل فاعل، وأنّ الشمعة المتهمة بالحريق «مفترى عليها». وقد حاول عادل حسان تقديم شهادته وقتها في التحقيقات الرسمية، لكن «لم يمنحوني حق الشهادة، رغم كوني شاهد عيان وعلى قائمة المصابين في المحرقة. سبع سنوات أكرر خلالها الرواية نفسها».
يوضح عادل أنّ الحادث «وقع قبل يومين من انتخابات الرئاسة التي قيل إنّها أول انتخابات حرة نزيهة للتجديد لمبارك بحسب النظام السابق. فيما كان المشهد يحتاج إلى حدث يخلق ضجيجاً إعلامياً ويجذب مانشيتات الصحف وعناوين أخبار القنوات التلفزيونية ليبعد الأنظار وقتها عن أشياء أخرى تدار في الخفاء». لعبة احترفها نظام فاسد فعلها مرات ومرات. الفاعل الحقيقي في أيلول (سبتمبر) 2005 لا يزال طليقاً. وقد بدأ العمل قبلها بسنوات، حين أغرق مواقعنا الثقافية في المحافظات والمسارح في حلقات متواصلة من الإهمال مع نية متهالكة وقاعات غير صالحة، ووسائل تأمين لا تعرف طريقها إلى هذه المواقع. رسائل تستغيث طالبة النجدة لتطوير وتحديث المواقع حتى تصبح لائقة آدمياً، من دون استجابة من المسؤولين عن الثقافة في النظام البائد الذين لم يهتموا سوى بأنشطة وفعاليات ومهرجانات دعائية تخدم مقاعدهم وطموحاتهم السياسية وتضمن لهم الاحتفاظ بحقيبة مهماتهم طوال هذه الحقبة الزمنية. هذه جريمة فاروق حسني الحقيقية. الفاعل الرئيسي لما جرى في بني سويف إما طليق، أو أحد رجال سجن طرة ممن يتم التحقيق معهم الآن أو من تلك الجماعات التي ترى الفن حراماً، لكنّها الآن في السلطة. هل يمكننا أن نعرف الحقيقة؟