لم نعد نهتم، او ربما الامر ليس مهماً... هكذا نتعامل مع هذا المشهد في الصورة بلامبالاة مجبولة بعوارض التوحّد: «واو، مبنى جميل»! ونزداد دهشة عندما نعلم ان المهندس الاميركي الشهير ستيفن هول صمّمه شخصياً لبحرنا: «واو»، مرّة اخرى لتأكيد الواو الاولى... كأننا نشاهد صورة مجرّدة من المكان والزمان والبيئة المحيطة والعلاقة مع الشأن العام والعلاقة الخاصة المباشرة. صورة لا تمتّ الينا بأي صلة لا من قريب ولا من بعيد، نكتشف ذلك ونتعامل معه على هذا الاساس ومع ذلك لا نهتم. نقلب الصفحة لنشاهد صوراً اخرى من دون اي ردّ فعل حقيقي وواضح... الـ«انا» المتضخمة لدى اللبنانيين (او نخبهم على الاقل) تتضعضع سريعاً.
فأمام هذه الصورة بالذات، قلّة تسأل: «اين مكاني انا؟»، وقلّة اقل منها بكثير تمتلك المال الذي يخوّلها الادّعاء ان «هذا المكان لي»... امّا اكثريتنا فتضع انفسها خارج الصورة كلياً، خارج المكان والزمان والدلالات المتصلة بهما: «انا شو خصني». نتجاوز التفاصيل: «هو مجرّد منتجع سياحي جديد بني على الشاطئ. وماذا في الامر؟ الامر معتاد». قبله بنيت منتجعات كثيرة، وتم السطو على اكثر من 10 ملايين متر مربع من الاملاك العامّة البحرية يقدّر ثمنها السوقي اليوم بأكثر من 40 مليار دولار... لم يعد هناك شاطئ اصلا، صرنا ندفع «لهم» لكي يسمحوا «لنا» بالوصول الى بحرنا. صارت املاكنا ملكهم. خسرناها عندما خسرنا الدولة وهيبة القانون والحدّ الادنى من القواعد الناظمة لعمل السلطة.
الامر لا يعنينا! نتصرّف ازاء ما تجسّده هذه الصورة كالمصابين بالتوحّد تماما: نؤدّي حركات متكررة ونمطية، نلعب باللعبة نفسها من دون اي تجديد او خيال. نخاف من التغيير، ونضطرب كلما واجهنا تعديلاً محتملاً في الروتين. لا نمتلك اي قدرة للانتقال من نقطة الى اخرى. نعاني صعوبة في التعبير ونكرر الكلام المتكلّف من دون ان نقصد اي معنى. نعاني من حساسية مفرطة ازاء الصوت، يوتّرنا الصراخ فنردّ بالصراخ. نعجز عن الحوار ونفتقر الى شروطه وتقنياته، ونفتقر ايضاً الى الاستجابة الملائمة للاستثارات الحسية والحالات المادية والوجدانية. ولا يوجد لدينا اي رد فعل طبيعي ازاء ما يجري حولنا... باختصار، تصرّفاتنا مرضية: نُكثر الهزهزة ونحملق دائما بلا سبب ونحرق الدواليب المطاطية لاننا في كل مرّة نعيد اكتشاف ان الكهرباء مقطوعة مثلا، كيف؟ لماذا؟ من المسؤول؟ اين يجب ان تحترق الدواليب؟ تحت شرفة من؟ اي طريق يجب ان نقطع؟ وعلى من يجب ان نقطع الطريق؟ لا يهم! نعيد الكرّة مرّة اخرى، هكذا من دون اي تراكم او ادراك واع او اتصال بالمحيط.
هذا المنتجع في الصورة ليس مجرّد مبنى «جميل»، بل يختزل في حكايته الكثير من تفاصيل مشهد تدمير المجتمع وتقسيمه جماعات متناحرة، ورسم خطوط تماس ابدية بينها، وغزو الدولة واحتلالها وتوزيعها حصصاً وثروات على قلّة من «الغزاة» ينتمون الى الطوائف المختلفة ومن كل الالوان السياسية... فهذا المنتجع المخصص للاغنياء يقوم على ملك عام لجميع اللبنانيين نتج عن ردم خليج مار جريس (سان جورج) في منطقة ميناء الحصن على طرف وسط بيروت لجهة عين المريسة... فقد تمّ تغيير معالم الخليج الشهير وجرى تزوير اسمه ليصبح «زيتونا باي»، بهدف تزوير الذاكرة الجماعية ومحوها كشرط للاستيلاء على المكان والايهام بأنه لم يكن هناك مالكون للارض قبل «سوليدير»، تماما كعقيدة بن غوريون في فلسطين المحتلة التي قامت على تغيير اسماء الاماكن وتهويدها لعزلها تدريجيا عن ذاكرة اصحاب الحق عليها.




اذا، خليج «سان جورج» هو ملك للدولة تم السطو عليه وتحويله الى ملكية خاصّة، والفظيع ان ذلك تمّ من دون اي اعتراض، بل ساهم الصمت والتواطؤ وعوارض التوحّد والجشع المسيطر بالذهاب الى ابعد من السطو، فقد حُمل المجتمع اللبناني كلّه كلفة ردم الخليج وردم ذاكرته بذريعة انشاء مرفأ عليه، يمتد على مساحة 66 الف متر مربع، مخصص للمنفعة العامّة السياحية، وتم تسديد هذه الكلفة الى شركة «سوليدير» بمنحها كل العقارات الناتجة من الردم خلافاً للقانون والمراسيم التنظيمية، بالاضافة الى منحها حق استثمار المرفأ نفسه لمدةّ 50 سنة قابلة للتجديد بمبلغ 2500 ليرة سنويا فقط لا غير عن كل متر مربع. وكل ذلك بموجب عقد رضائي، اي من دون اجراء مناقصة مفروضة في القوانين المرعية الاجراء.
ليس هذا فحسب، بل ان كل الانشاءات القائمة اليوم على الخليج المردوم تخالف كل القوانين، وجرى ترخيصها بموجب مراسيم استثنائية مصممة على قياس المنتفعين من هذه الانشاءات، ولا سيما شركة «تطوير واجهة بيروت البحرية»، التي تمتلك «سوليدير» نفسها نصف اسهمها في حين تمتلك شركة «ستو ووترفرونت» النصف الآخر، حيث يملك وزير المال محمد الصفدي اكثرية اسهم الشركة الثانية، وهو كان يتولى حقيبة وزارة الاشغال العامّة والنقل عندما جرى اسقاط العقارات على الخليج المردوم من ملك الدولة العام، علما ان هذه الوزارة هي المسؤولة عن الاملاك العامّة البحرية! وعلى ايام الصفدي ايضا، جرى منح هذه الانشاءات استثناءات خاصة، كون الوزارة التي تولاها مسؤولة ايضا عن تطبيق قوانين التنظيم المدني!
اقيم المشروع على العقارين 1455 و1456 المشمولين بالمرسوم رقم 3808 الصادر في 8 أيلول 2000، والذي عدّ المساحات الإضافية التي استُحدثت بواسطة الردم نتيجة أعمال الحماية البحرية جزءاً من الأملاك العمومية، «ولا يعود لشركة سوليدير أيّ حقوق فيها، وتُعدّ هذه المساحات غير قابلة لإقامة أي إنشاءات عليها». إلا أن مجلس الوزراء عاد وأصدر المرسوم رقم 16546 الصادر في 9 آذار 2006 (في ظل تولّي الصفدي حقيبة وزارة الأشغال العامّة والنقل وحمل توقيع رئيس الجمهورية اميل لحّود)، فعُدّل التصميم التوجيهي العام والنظام التفصيلي والشروط الخاصة بالقطاع التنظيمي رقم أ في وسط بيروت التجاري، وتم اسقاط العقارين المذكورين في منطقة ميناء الحصن (وهما من المساحات الاضافية الملحوظة في المرسوم السابق) من املاك الدولة العامّة كما تم استثناؤهما من تطبيق الشروط العامة والخاصة لمنطقة وسط بيروت، بحيث استثني بناء المرأب في الطبقة الأرضية من جهة المارينا من العلوّ الحر المفروض قانوناً، ولم تُحتسب المساحة المخصصة لمحطة تحويل الطاقة الكهربائية من ضمن المساحة المبنيّة الإضافية، ولم تُحتسب ايضا المنشآت التقنية الواقعة خارج مسقط البناء من ضمن المساحة المبنية الصافية، لا بل عدّل أيضاً الارتفاع الأقصى للبناء المنوي إقامته على العقار رقم 1456، بحيث اصبح 13 متراً، واستثني البناء كذلك من نسبة الشرفات على الواجهة المحدّدة بـ60% كما استثني من تحديد المساحات الخضراء المفروضة قانوناً، وسمح المرسوم بإقامة مقاه ومطاعم ومؤسسات سياحية، إضافة إلى النشاطات الرياضية والترفيهية والمحالّ التجارية والسكن خلافا للتصنيف الذي عدّ هذه العقارات بوصفها ساحة عامّة!
وأعطى محافظ بيروت بالتكليف ناصيف قالوش شركة «إنماء واجهة بيروت البحرية» رخصة بناء لمدة 6 سنوات، في 13 تشرين الثاني 2007، تقضي ببناء ثلاث طبقات سفلية (أي تحت مستوى البحر) وطبقة أرضية وطبقة تقنية على العقار رقم 1456 (ملك عام ناتج من ردم البحر). ولكن، في 7 أيار 2009، عدّل قالوش رخصة البناء، فارتفع مع التعديل عدد الطبقات 4 طبقات تضاف إلى الطبقة الأرضية والطبقة التقنية ليصبح العدد الإجمالي 6 طبقات فوق الأرض، وثلاث سفلية! وهو ما جعل هذا المنتجع يسيطر على الملك العام ويحجب البحر عن الكورنيش لينتفع من مساحات سكنية وتجارية وترفيهية معدّة للاستثمار وبيع نحو 12 ألف متر مربع من الوحدات السكنية المفروشة الفارهة، فضلا عن ناد لليخوت يستوعب 800 عضو، بالإضافة إلى تسعة آلاف متر مربع من المساحات التجارية.
لم تنته الحكاية، فالمشروع برمّته المعروف بـ«زيتونا باي» تم اعتباره بمثابة انشاءات مؤقتة قائمة على ساحة عامّة! في حين ان الانشاءات القائمة ثابتة ولم تعد هناك اي ساحة عامّة، ما عدا رصيفاً خشبياً ضيّقاً يجاور المرفأ السياحي، وهو كان ملحوظاً في المخطط الرئيسي كرصيف عام واسع يتصل بالكورنيش البحري من دون اي حواجز، من الرملة البيضاء حتى مرفأ بيروت، وعدّ الرصيف البحري في منطقة الردم قبالة وسط بيروت، التي سيطرت عليها «سوليدير»، مخصصا للتنزّه ومفتوحا للعموم... الا ان الشركة اقامت جداراً اسمنتياً سميكاً (غير مرخّص) لقطع الرصيف عند حدود هذا المشروع، وذلك بهدف استثمار جزء مهم من الرصيف لخدمات المشروع نفسه. واكثر من ذلك، اقفلت الشركة الخاصة المدخل الرئيسي الى المرفأ، بالقرب من مسبح عجرم، وحصرت الدخول اليه من بوابات على الكورنيش مقابل فندق «مونرو» تؤدّي الى ما تسمّيه «زيتونا باي»، فتم تعريف هذه المداخل بأنها «ممتلكات خاصّة»، وذلك لكي تفرض «سوليدير» سيطرتها على مداخل الرصيف وتحوّلها الى ساحة مقفلة غير مفتوحة امام العموم كما يفرض القانون والمخطط الرئيسي، وبذلك بسطت سيادتها على الاملاك العامّة بما في ذلك سائر مرافق المرفأ ومعابره الحدودية التي تقع تحت سلطة الدولة وسيادتها حصرياً، فنشرت الشركة رجال امنها الخاص ووضعت اشارات تحذيرية للروّاد بما يكفي لجعلهم يشعرون بأنهم متطفّلون على ممتلكات الشركة الخاصّة، او ضيوفا مراقبين في احسن الاحوال.
يختزل ما حصل ويحصل على خليج السان جورج المردوم في مثال واحد كل ما يجب مقاومته على كل بقعة من لبنان: ردم البحر والتسبب بأضرار بيئية دائمة (البيئة ملك عام) واحتلال الشاطئ والسطو على املاك الدولة وتحويلها الى املاك خاصّة، فضلا عن ان هذه العملية برمتها والاجراءات التي رافقتها وصولا الى تنفيذ المشروع هناك تنطوي على كل اشكال الفساد وصرف النفوذ والاثراء غير المشروع ومخالفة الدستور والقوانين واصدار المراسيم وتفصيلها لمنفعة شخصية ومحاباة شركة خاصّة على حساب حقوق المواطنين وهدر المال العام وتفويت مداخيل اساسية على الخزينة العامّة وانتهاك الحصرية التي تتمتع بها الدولة في ممارسة الاعمال السيادية.
لا تزال عوارض التوحّد تمنع اكثرية اللبنانيين من التفاعل مع هذه الوقائع والتصدّي لها بحزم، اذ ان قسما منهم يرى في كل ذلك استهدافا لمنطقة! او طائفة! او تيار سياسي! وكأن شركة خاصة يمكن ان تختزل عاصمة لبنان واهلها الذين كانوا اول ضحاياها، اذ ان تشريع عمل «سوليدير»، في ظل حكومة عمر كرامي ورئاسة حسين الحسيني للمجلس النيابي، ادّى الى انتزاع نحو 135 الف لبناني من وسط المدينة وتهجيرهم الى خارجها وادّى الى توسيع خط التماس وتثبيته كعازل طائفي وطبقي وثقافي، من بشارة الخوري الى المرفأ، ومدّه الى البحر على مساحة 870 الف متر مربع بما جعل بيروت مفصولة عن قلبها وبحرها بمساحات فارغة من الناس، ما عدا بعض الاغنياء الذين يعبرون منها لتمضية بعض الوقت والترفيه عن انفسهم... والطريف ان البعض ايضا يعتقد ان هذا الموقف ينم عن تمييز ضد الاغنياء! او كما كتب احدهم ينم عن عنصرية يمارسها الفقراء ضد الاغنياء. غريب امرنا نحن اللبنانيين.



انطلاق «مشاع»

انطلقت مساء الجمعة الماضي حركة اطلقت على نفسها اسم «مشاع ــــ لاسترداد الاملاك العامّة»، واختارت اقامة اول نشاطاتها على خليج مار جريس المردوم، نظراً الى رمزيته الواضحة والشاملة، وللتعبير عن مقاومتها للمشروع القائم عليه وملابساته عشية افتتاح المنتجع السياحي المقرر بعد نحو شهرين. وقد شارك في هذا النشاط الاعتراضي اكثر من 600 ناشطة وناشط، في حين اقدم نحو 400 منهم على تسجيل انفسهم متطوعين في هذه الحركة، وهم يتوزعون على مجالات واسعة في الاعلام والصحافة والفنون والعمارة والهندسة والمحاماة والحقوق والتعليم والطب والبيئة والنقابات العمالية والجمعيات الاهلية غير الحكومية والمنظمات الشبابية وغيرها... وقد اعلنت حركة «مشاع» في نشاطها الاول التأسيسي انها ستقوم بمجموعة من التحرّكات بهدف استرداد الاملاك العامّة انطلاقاً من المساحات الناتجة من ردم البحر، وتحديداً من خليج مار جريس. وأفادت بانها ستعلن قريبا عن خطّة عملها من اجل تنفيذ هذا الهدف وتوسيع اهدافها تدريجيا لتشمل الشاطئ كلّه وضفاف الانهار والبحيرات وقمم الجبال والمواقع الطبيعية والتاريخية والتراثية والبيئة وشبكات المواصلات والاتصالات.
وساهم في احياء حفل الانطلاق: زيد حمدان، الراس (مازن السيد)، فرقة «طنجرة الضغط»، فرقة «نشاز». وقام بالتنسيق الموسيقي (D.J) ريغاس وحسام حوّا وقدمت ل. ميرزا عروضاً بصرية (V.J). وساهم بتقديم رسوم تعبّر عن حركة مشاع واهدافها طُبعت على بوستر والتيشيرت كل من: جنى طرابلسي، لارا بلعة، غدي غصن، فؤاد مزهر، دافيد حبشين، جوزف قاعي وفيتو مانولو روما.