بعد حوالى سبع سنوات من الغياب عن المشهد المسرحي في بيروت، تعود المخرجة والكاتبة المسرحية اللبنانية لينا خوري، في مسرحية جديدة بعنوان «فيزيا وعسل» تنطلق عروضها اليوم على خشبة «مسرح المدينة». وسط الكمّ الكبير من النتاجات والتجارب المسرحية، توفر مسرحية خوري في هذا الإطار «فرجة احترافيةً» يتطلع إليها جمهور كبير، يترقّب، أيضاً، كلاًّ من الممثلين ريتا حايك وآلان سعادة. تنطلق المسرحية من علاقة حبّ تتخطى الواقع وحدود فهمنا للزمان والمكان، لتكون قصة استثنائية، مضحكة، مبكية، مشاكسة، تصحب المتلقين في رحلة مغرية وشيّقة. قد تكون «فيزيا وعسل» إحدى أبرز تجارب لينا خوري وأكثرها نضوجاً وحداثة، لناحية الشكل والمضمون المسرحيين. «إنّها قصة حبّ في شكل جديد، عن علاقة بين اثنين، في احتمالات متعددة ولا متناهية... هذا على المستوى المباشر» تقول في حديثها معنا. «تطرح المسرحية سؤال «ماذا لو؟» ضمن خيارات متعددة، يلعبها الممثلان، الرجل (آلان سعادة) مربّي نحل، والمرأة (ريتا حايك) عالمة فيزياء، تعمل على الـ String Theory أو ما يعرف بـ «نظرية الأوتار الفائقة»، هذه النظرية، التي لا تزال حتى يومنا هذا موضع بحث في عالم الفيزياء، تشير إلى احتمال أن يكون هناك عوالم أخرى، موازية لنا». لذلك، «تأتي العلاقة في هذه المسرحية، ضمن احتمالات لا نهائية، لتُحكى القصة بسرديات مختلفة تحتّم السؤال عن حرية الخيار والقدر، والحياة، والأمل».

من المسرحية

في ما يخص النص المسرحي، فقد اختارت خوري النص الأصلي Constellations للكاتب البريطاني نيك باين الذي نشره عام 2012. حافظت خوري على الحبكة من دون المساس بأساسياتها، مع «لبننتها» كونها موجهة إلى الجمهور اللبناني. تقول لنا: «شاهدت المسرحية للمرة الأولى، عندما كنت أشارك في أحد مهرجانات شنغهاي في الصين. النص فيه دهشة رافقتني لمدة سنوات، يستدعيني النص مراراً وتكراراً. اليوم، أقدمه وقد يكون بالنسبة إليّ أحد أهم أعمالي المسرحية. آخر نص قدمته كان عام 2018 مع «حكي رجال» دخلنا من بعدها في دوامة الانهيارات والأزمات، وتبددت الثورة، وأطاح انفجار الرابع من آب (أغسطس) 2020 بكل شيء... وسادت حالة الاكتئاب. كنت أسأل نفسي، طوال تلك المدة، عن قيمة المسرح في وقت الأزمات، خصوصاً أن كل الأعمال الفنية، أكانت في المسرح أم السينما أم الفنون الأخرى، لا يمكنها أن تحاكي الأزمات الراهنة، لأن الرؤية والمعالجة، بحاجة إلى مسافة معينة. لكن السؤال المحفز، بعد كل ما مررنا به، كان حول القدر. لذلك عادت الثيمة الأساسية للمسرحية الأصلية للكاتب البريطاني، لتفرض نفسها. بعد ذلك، شُنت الحرب على غزة التي هي أكبر أزمة نشهدها. سقطت كل المواثيق والديمقراطيات وشرائع حقوق الإنسان... لكننا عاودنا نشاطنا رغم عدم قدرتنا على وصف ما يحصل». انطلاقاً من ذلك، تأتي المسرحية بعيدة عن السياق الذي عشناه أو نعيشه الآن، ولكن الأسئلة التي تطرحها من قبيل «أين مكاننا في الكون؟ هل نملك حرية القرار؟ هل مقدّر لنا أن نعيش على هذا النحو؟ هل نسأل أنفسنا عما نقوم به في دوّامة حياتنا؟ كلها تنطبق بشكل كبير على حياتنا، لا بل تنطلق من صلبه» تقول خوري.
رغم أن الثيمة في «فيزيا وعسل» تتقدم على حساب العناصر المسرحية الأخرى، ولكن ذلك يعطي الشخصيات ودراستها أهمية قصوى، وكذلك السينوغرافيا، والأزياء، والإضاءة، والصوت. كل هذه العناصر تقدم في هذه المسرحية بوضوح، وشكل معاصر، مخالط للعلم، وترتبط بصلب النص. تعمل لينا خوري وفقاً لمنهجية محددة. بحثت عن الكاتب، والنص، والنظريات، والتحليلات التي يطرحها... تتشكل الرؤية الإخراجية جراء عقد لقاءات ونقاشات مع الفريق الفني من ممثلين، ومصممين، وتقنيين. الكل يطرح أفكاره، بما يخدم الفكرة الأساسية، لتحمل الرؤية الإخراجية طبقات متعددة من الإبداع. ريتا حايك وآلان سعادة، لا ينتظر منهما الجمهور إلا أن يكونا محترفين، ومهنيين، وملتزمين، ونجوميتهما في المسرح، كما في الشاشة، تزيد من رغبة الجمهور في مشاهدتهما. لديهما أدوات عالية الأهمية، من جسد وصوت وصدق، تقول خوري: «كان العمل معهما سلساً ومريحاً خلال بناء الشخصية والأخذ في الحسبان المسار الإخراجي، انطلاقاً من العمل برمته». عبر كل هذه العوامل التراكمية، ستصل المعاني، والطبقات، والأفكار، والعواطف، والأحاسيس، بطريقة عالية الدقة.
أي أثر ستتركه مسرحية «فيزيا وعسل»؟ تقول خوري رداً على هذا السؤال: «عبر أعمالي المسرحية، «أحركش» بدماغ المتفرج. كل الأعمال الفنية لها المواضيع نفسها، ولكن المعالجة تتغير، لذلك أحرص على ترك أثر لدى المتفرجين لإعادة صياغة الأسئلة عن واقعهم، أو إعادة التفكير بطريقة جديدة. لكن أكثر ما يشغلني هو السؤال عن الذائقة الفنية. نحن في عصر الانحطاط على المستويات كافة، وهناك تدنٍّ في المستوى الفني، لكن ما وصل إليه الذوق الفني يعدّ متدنياً. بالطبع، هناك تجارب لامعة، تعطينا حافزاً للمضي قدماً، لذلك أعمل في المسرح كونه مهنتي، وشغفي، وهاجسي، وأحرص على تقديم أفضل ما لديّ».
قد يكون هذا العمل إحدى أبرز تجارب خوري وأكثرها نضوجاً وحداثة لناحية الشكل والمضمون المسرحيين


على صعيد آخر، يطرح السؤال نفسه عن ظروف الإنتاج المسرحي في وقتنا الحالي الذي اشتدت فيه الضائقة المالية، وازدادت تعقيداً. تقول خوري: «إنّها كانت تقوم بالإنتاج المسرحي، قبل الأزمات، بطريقة ذاتية، كي لا تقدم أي تنازلات في ما يخص قيَمِها ورؤيتها الفنيتين، وحتى لا تتحول مسرحياتها إلى سلعة تجارية. اليوم، تغيرت الظروف، طرقت أبواباً عدة، وقدمت على منح كثيرة، حتى حصلت على واحدة فقط من «بيريت». هناك شراكات مع وسائل الإعلام، والمطابع، وبعض المؤسسات الأخرى. أبحث عبر أعمالي عن طروحات ومعالجات جديدة، وهذا يتطلب تمويلاً كبيراً، لكن الحلول البديلة دائماً ما تكون محط بحث بالنسبة إلينا». وعليه، تأتي المسرحية على درجة عالية من الاحترافية، والمعاصرة. تعيد «فيزيا وعسل» تأطير الحب في أكوان وعوالم مختلطة. الحب الذي هو أسمى مشاعرنا، يأتي استكمالاً لموضوع العلاقات التي دائماً ما نقّبت لينا خوري فيها ضمن أعمالها المسرحية من قبل. وها هي تقدم اليوم «فيزيا وعسل»، حيث سيكون الجمهور على موعد مع السحر الذي يولّده الحب.

* «فيزيا وعسل»: بدءاً من اليوم حتى 19 أيار (مايو) ـــ الساعة 8:30 مساءً ـــ خشبة «مسرح المدينة» (الحمرا ـ بيروت) ــ تُباع البطاقات في جميع فروع مكتبة «أنطوان»، و«أنطوان أونلاين».