يمشي على الأرض ويتأكد، مع تقدمه خطوات إلى الأمام، من أن قدميه لا تزالان على الأرض. لا يؤخذ حنا عتيق بمناداته «حضرة القائد» ولا «يبوخر» رأسه: أول دروس المقاتلين الذين يواجهون الموت ميدانياً، لا في القصص الوردية، أن يعرف الرجل حجمه، حيثما وجد. منفاه الطوعي في الولايات المتحدة حفظ صدقه العكاريّ من الملوثات. كأبناء تلك القرى البعيدة، لا يزال يرحّب ويحضن ويقبّل، ويحب ويخاصم بصوت عال. غادر «الحنون» لبنان عام 1994 بناءً على طلب رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في خلوة جمعتهما ثلاث دقائق عند بدء محاكمة «قائد القوات». أعرب الأخير لـ«الحنون» عن خشيته من أن تستغل شهادته ضده، فغادر. وفيما كان جعجع في سجنه، نظّم «الحنون»، مع رفاق آخرين، الانتشار القواتي، مصلحين كل ما خرّبه جعجع في علاقات القوات، سواء مع الرئيس أمين الجميّل وحزب الكتائب، أو مع العماد ميشال عون، أو مع آل شمعون وحزب الوطنيين الأحرار.
بعد إطلاق جعجع، زار «الحنون» لبنان مرتين: الأولى بالثياب الرسمية لتهنئته بالسلامة، والثانية بحذاء قديم لا يزال يرتديه اليوم بعد ست سنوات على ذلك اللقاء الأخير. الحذاء كان واحداً من أسباب افتراق قائد «فرقة الصدم» عن قائد «القوات» في كانون الأول 2006. فما كاد جعجع يقول إن «الجزم الموسّخة تحول دون إقناع القوات مجتمعها بإغلاقها صفحة الحرب»، حتى ارتفع صوت «الحنون» مشيراً إلى فضل وسخ تلك الجزم على وجود جعجع حيث هو اليوم. خرج الرجل يومها من «منزل ستريدا وسمير»، الذي تشغل قيادة القوات اللبنانية إحدى غرفه، ولم يعد بعدها.
في السنوات الفاصلة بين طلاقه مع جعجع ومؤتمر سيدة الجبل، كرس الرجل تمايزه عن غيره من قدامى القوات، ما يفترض أن يجعله شخصاً آخر، سواء في حسابات جعجع أو خصومه. فبعيداً عن الإعلام والإعلان، جاب خلال ست سنوات القرى حاملاً قائمة شهداء القوات وجرحاها الذين لا تذكرهم قيادة معراب إلا في احتفال الشهداء السنويّ وبعض البيانات. دخل «الحنون» منازل فقيرة يحلم أبناؤها بفتات الموائد المعرابية، وأخرى متوسطة هاجر أبناؤها بحثاً عن وظيفة. يقول إنه سمع «ما لا تسمعه معراب»، ورأى «ما لا يمكن مناضلاً من أجل حماية مجتمعه أن يراه». لم يفوّت ليلة، طوال ست سنوات، من دون سهرة مع بعض أصدقائه السابقين، سواء في عين الرمانة أو سن الفيل أو أعالي بعبدا وكسروان وجبيل والبترون. لم يحمل «الحنون» لهؤلاء هدايا أو وعوداً. كان يكفيهم أن يزورهم بثياب تشبه ثيابهم، وأن يسأل عنهم. ثمة فرق، يقول أحد أصدقائه، بين المقاتل والقاتل. تجمع الأول برفاقه عشر سنوات من الموت اليوميّ وذكريات خطوط التماس الملوّنة بالدموع والضحك، فيما يجلس الثاني خلف مكتبه ويصدر أوامر القتل.
لا يمكن معراب وصف حنا عتيق بـ«التابع للاستخبارات السورية» كما تصف كل من يرفع سبابته في وجهها. تعلم أنه الوحيد في مجلس قيادة القوات الذي رفض «زحف» جعجع لتعزية القيادة السورية بوفاة باسل الأسد. وتتذكّر موقفه من لقاءات جعجع، المعلنة والسرية، مع غازي كنعان، وتذكر أنه فضل الالتزام بخيارات جعجع الاستراتيجية الفاشلة على الصعود مع صديقه إيلي حبيقة إلى دمشق. ولا يمكنها تطويقه إعلامياً وشعبياً، فلا يكاد صديق قديم يتصل بـ«الحنون» إلا و«يغطّ» الأخير خلال خمس دقائق في بيت المتصل. معراب لا تزال، حتى اليوم، توزّع صور فرقته وأعلامها على طلاب المدارس، ويحدّث القواتيون عن بطولاته. قُتِل الرجل وقَتَلَ ألف مرة، فيما كان غيره مشغولاً بتكديس الثروات المنهوبة في الأديرة المصادرة ويُعدّ الخطط لبيع السلاح و«ضبّ» ثمنه السياسي والمالي في جيبه. يرى «الحنون» القلعة المعرابية قصراً زجاجياً. لو قال غيره ربع ما قاله لجعجع في مؤتمره الصحافي، ولاحقاً في مداخلاته التلفزيونية، لجنّت أبواق القوات الإعلامية. ولكن، خلافاً لكل الاستراتيجية الجعجعية في تحطيم الخصوم، تحاول معراب إقناع نفسها بأن العتيق... غير موجود.
في غياب «الحنون»، كان الشباب الموصوفون بـ«قدامى القوات اللبنانية» يجتمعون على عشاء أو حول بيان بين وقت وآخر، يُشغلون بشتم جعجع عن كل شيء آخر، يبالغون في تحديد حجمهم، فيما يكاد يقتصر نشاطهم على إطلالة تلفزيونية على «المنار» أو «أو تي في»، ولا يضعون نصب أعينهم أكثر من الكراسي النيابية سواء في الأشرفية أو المتن الشمالي أو كسروان. بات هؤلاء، بعد ست سنوات من المشهد نفسه، مملّين فعلاً. يفترض أن يغيّر «الحنون» كل ذلك. نجح، أولاً، في جمع أجيال القوات المتعددة في فتقا. فجلس البشيري قرب الشمعونيّ، والحبيقيّ إلى جانب الجعجعيّ. وبعدما تشتتوا الى «قدامى القوات» و«الاتحاد من أجل لبنان» و«جبهة الحرية» وغيرها من نوادي التقاعد السياسي، اجتمعوا في صف واحد هذه المرة. في ظل تشديد «الحنون» على أن حضور النائب السابق جورج كساب، والرائد المتقاعد فؤاد مالك، وفؤاد أبو ناضر وحنا العتيق وجو إده ومسعود الاشقر وجوزف الزايك والياس باسيل وروبير أبي صعب وجان خوري وكل الآخرين جنباً إلى جنب مهم، لكنه ليس الأهم. الأهم جمع الشتات القواتي.
في رأس الرجل، كما في بيان سيدة الجبل، ثلاثة عناوين رئيسية:
أولاً تسليط الضوء على افتقاد القوات مشروعاً سياسياً، وخطورة الحصار الجعجعي لبكركي بعد الإسهام عبر اتفاق الطائف في تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية ودوره. ويفترض بـ«الحنون»، الآن، التنقل بين القرى، سائلاً من يلتقيهم عن أموال القوات التي يحتاج إليها أبناء الشهداء والمعوقون والمصابون والمحررون بعد سنوات أسر طويلة. ثانياً، ربط أنفسهم ببكركي فقط بعيداً عن المرجعيات السياسية، من دون أن يحول ذلك دون محاولاتهم الانفتاح على رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون والنائب سليمان فرنجية كما على الرئيس أمين الجميّل والنائب سامي الجميّل وغيرهما من حلفاء جعجع. والانطلاق، ثالثاً، في ورشة استقطاب للقواتيين، سواء «الزعلانين» من جعجع أو الراضين عنه ضمن مشروع تنظيمي واضح.
والأكيد، أخيراً، أن حنا عتيق الذي كان يحسب خطواته في الحرب بدقة، ونادراً ما تعثّر عسكرياً، يأخذ وقته أكثر في خطواته السياسية، فما كان ليرفع صوته لولا تيقّنه، بعد مئات اللقاءات الفردية والجماعية مع رفاقه السابقين وعشرات اللقاءات السياسية والروحية، من أنه الوقت الأفضل ليقول علانية لجعجع: «القوات بمالها ونضالاتها لنا، خض معركتك الرئاسية إلى جانب الإخوان المسلمين من مكان آخر».



نحن القوات اللبنانية

لا يكاد يقترب «القائد» من منزل إلا ويهرع شباب المبنى وبعض الحي للتفرج عليه من بعيد. يسبق حنا عتيق في زياراته غالباً أحد مقاتليه أو مستشاره السياسي الياس باسيل. ولا يكاد يدخل حتى يتغير جو المنزل برمته. يولي «القائد» الجانب الشخصي في علاقاته اهتماماً كبيراً، ويحرص على معرفة تفاصيل التفاصيل في حياة مضيفه قبل التطرق إلى القضايا السياسية. وبين عبارة وأخرى، يحرص «الحنون» على التكرار: «نحن القوات اللبنانية»، «نحن مع قوات لبنانية قوية» و«قوات تحمي ثوابتها الأساسية». يريح ذلك أعصاب مستقبليه. يفهم «الحنون» أنهم، أولاً وأخيراً، قوات لبنانية، لا يريدون أن يكونوا شيئاً آخر ولا يريدونه أيضاً في مكان آخر. ويعلم «القائد»، بالتالي، أن معركته ليس إلغاء القوات أو تحجيمها أو محاصرتها، العكس تماماً. تحديه الأساسي بالتالي أن لا تخطفه أضواء «المنار» و«إن بي إن» و«أو تي في»، فيتحوّل جزءاً من ديكور المهرجانات العونية، يستخدم هنا وهناك لشتم جعجع. إما أن يؤسس «الحنون» قوات لبنانية تعبر عمّا تدافع رفاقه للقتال في سبيله أو لا يكون قائداً. يبحث المرحّبون به، بصدق يماثل صدقه، عن قائد.