يتصبّب العرق من جبين تاجو (32 عاماً) إثيوبيّة الجنسيّة، أثناء قيامها بتنظيف عيادة أحد الأطباء في مدينة شتوره. تتقن العاملة الأجنبيّة التكلّم باللغة العربيّة بطلاقة لافتة، ولم يكن من السهل إقناعها بالتحدّث عن طبيعة عملها الذي قد لا يكون شرعياً.
وعندما توافق، تشترط عدم ذكر كنيتها والتقاط صورة لها، «ما بدي تعب راس مع اللي كنت اشتغل عندهم»، تقول. قبل أن تتابع الكلام، يرنّ جرس هاتفها الخلوي. تلقي بعصا ممسحة التنظيف جانباً وتجفّف عرقها لترد على المتّصل، «يسّ معك تاجو... بدي 5 دولارات بالساعة... أوكي نهار الخميس بعد الظهر».
تنهي المكالمة، لتعود فتستوضح عن أهداف اللقاء معها قبل أن تروي حكايتها. تاجو قدمت إلى لبنان قبل أكثر من خمس سنوات. عملت مدة ثلاث سنوات لدى عائلة تقطن في منطقة المتن، وبعد انتهاء عقد عملها غادرت الى بلدها وبقيت هناك قرابة سنتين. أجبرتها الظروف على العودة مجدداً من خلال أحد مكاتب استقدام العاملات المنزليات. هذه المرة وجدت نفسها في البقاع، حيث عملت في منزل عائلة تقيم في منطقة شتوره. لم تدم إقامتها في ذلك المنزل سوى أسبوعين تقريباً. غادرت لأنها لم تتحمّل «سوء معاملة ربّة المنزل لي، فطلبت منها إعادتي الى مكتب الاستخدام وهذا ما حصل». تضيف: «عرض عليّ صاحب المكتب البقاء في لبنان، والعمل بواسطته في تنظيف المنازل والمؤسسات لقاء أجر يومي يحدد بحسب طبيعة العمل». وافقت، وها هي الآن تخلص إلى نتيجة مفادها أن «الأعمال الحرّة أربح وأريح»، موضحةً أنها تتقاضى مبلغ 5 دولارات عن كل ساعة شغل، حصة صاحب المكتب منها دولار أو دولاران، فضلاً عن المبالغ الأخرى السنويّة التي يأخذها الأخير لتغطية قيمة التأمين السنوي وتجديد عقد العمل، وتمديد الإقامة في الأمن العام اللبناني.
كلام تاجو ينفيه صاحب مكتب لاستخدام العاملات الأجنبيات في منطقة شتوره، لجهة الحصول على مبالغ ماليّة تحسم من أجور عاملات يعملن باليوم أو بالساعة، «كل ما في الأمر هو تأمين مصاريفهن إلى حين استخدامهن مجدداً في منازل غير تلك التي تركنها طوعاً أو قسراً». ويؤكد في الوقت عينه أن المبالغ التي يأخذها أصحاب المكاتب من العاملات، يدفعونها بدل رسوم لتغطية التأمين وتجديد عقود العمل وتمديد الإقامة في الأمن العام، إضافة إلى بدلات لاستئجار مسكن لهن لا أكثر ولا أقل.
لكن هل يعدّ ذلك مشروعاً من الناحيّة القانونيّة؟ يجيب صاحب المكتب «ما نقوم به ليس جريمة بل مخالفة يمكن تجاوزها، ولا ننسى أن في لبنان كل شيء ممكن، وقد حصل سابقاً أن قام الأمن العام بضبط مخالفات من هذا النوع، وجرى اتخاذ الإجراءات القانونيّة اللازمة بحق المخالفات وترحيلهّن إلى بلادهن وفقاً للآلية المتبعة في مثل حالات كهذه»، مقترحاً إصدار قانون واضح في هذا الإطار، يعطي للعاملات الأجنبيات حق حريّة الاختيار، بين حصر استخدامهن في المنازل، أو ممارسة الأعمال الحرّة وفقاً لرغباتهن.
فكما هو معروف، تواجه العاملات الأجنبيات في لبنان عدم وجود قانون يراعي استقدامهن وينظم عملهن، خصوصاً أن المادة 7 من قانون العمل اللبناني (الصادر بتاريخ 23/9/1946) استثنت من أحكامه الخدم في بيوت الأفراد. وفي ظل غياب أي مظلة قانونيّة ترعاهن، يبقى الإطار القانوني الوحيد الذي يرعى عملهن في المنازل عقداً ثلاثي الأطراف (بين العاملة ومكتب الخدمات وربّة/ربّ المنزل)، والذي لا يقف عائقاً أمام إخلال أيّ من هذه الأطراف به. أمام هذا الواقع، بدأت أعداد غير قليلة من العاملات الأجنبيات بالتفتيش عن مصادر للرزق خارج المنازل التي استقدموا للعمل فيها. فهناك من هرب من الخدمة في البيت لأسباب عديدة، مثل الحبس القسري والتجويع والتعرّض للضرر الجسدي أو الاغتصاب. وهناك أيضاً من استقدمن للعمل في لبنان، لكنهن لم يحظين برضا كفلائهن الذين أعادوهن الى مكاتب الاستخدام، فاحتفظت الأخيرة بالراغبات منهن في البقاء في لبنان تمهيداً لتأمين فرص عمل لهن في أمكنة أخرى. وهن يعترفن بأنهن بتن يفضلن العمل الحرّ على البقاء في المنازل التي يستقدمن للعمل فيها. هكذا يعرفن أنهن أنجزن الأعمال الموكلة إليهنّ في وقت معين، وبقيت لهن حصة للاستراحة أو الخروج أو القيام بأي عمل يشعرهن بحريتهن.
من جهته، يرى مسؤول في الأمن العام اللبناني أن استخدام بعض العاملات الأجنبيات خارج الإطار الذي استقدمن من أجله يعدّ مخالفة يعاقب عليها القانون اللبناني، لأن الآليّة المتبعة لإقامتهن واستخدامهن في لبنان من خلال العقد الثلاثي الأطراف، الذي ينظم الأمور على نحو يسهّل على الأجهزة الأمنيّة ضبط قيود الأجانب، وتحديد المسؤوليات في حال تعرضت إحدى هذه العاملات لأي مكروه. يشرح: «الأمثلة كثيرة على ذلك، فالكثيرات منهن تعرضن للقتل أو الاغتصاب أو قضين بحادث سير، أو أقدمن على الانتحار خارج أماكن إقامتهن المدونة في سجلات دوائر الأمن العام». ويضيف «من جهة أخرى سجلت التقارير الأمنيّة قيام بعضهن بأعمال السرقة والقتل وممارسة الدعارة وغيرها من الجرائم التي يعاقب عليها القانون»، منبّهاً أصحاب المكاتب من مغبة اللجوء الى هكذا أساليب غير شرعيّة الهدف منها النفع المادي على حساب المصلحة العامة. وعن دور أرباب العمل على هذا الصعيد أشار المسؤول إلى أنه «على هؤلاء التأكد من قيام أصحاب المكاتب فعلياً بإعادة العاملات الى بلادهن، وبالأخص اللواتي تركن منازل مستخدميهن طوعاً أو قسراً قبل انتهاء عقد العمل».