الاقتصاد الياباني هو الثالث الأكبر في العالم يتمتّع بميزات تفاضليّة على صعيد التصنيع ويخرج بثبات من مخلفات عقده الضائع ومن مآسيه الطبيعية _ وحتى السياسية _ المتكرّرة بفضل تراكم المعرفة والابتكار. بيد أنّ البلاد التي يبلغ عدد سكانها زهاء 127 مليون نسمة تواجه معضلة ديموغرافية حقيقيّة قد تؤدّي، إذا بقيت دون علاج، إلى القضاء على إمبراطورية الشمس كما نعهدها.
فالمجتمع يشيخ على نحو متسارع، ولنكن أدقّ بمعدّل هو الأعلى في العالم. التوقعات الآن هي أنّ نسبة السكان فوق 65 عاماً سترتفع إلى 36% من الإجمالي بحلول عام 2040، بعدما كان المعدّل 9% في بداية ثمانينيات القرن الماضي.
وخلافاً لمنطق تطور الاقتصاد والمجتمع، ستنخفض شريحة القوى العاملة (15 _ 64 عاماً) من المستوى الأعلى الذي سجّلته عام 1995 والبالغ 87 مليون عامل إلى 55 مليون عامل فقط عام 2050.
المعضلة حقيقية إلى درجة أنّ صندوق النقد الدولي نشر دراسة أمس _ من إعداد تشاد ستاينبرغ وماساتو ناكاني _ تبحث كيفية إنقاذ هذه الأمة من التدحرج إلى فخّ الشيخوخة وتراجع الفعالية والإنتاجية. بكلمات أخرى، كيف تُنقذ اليابان نفسها من التحوّل من أحد ألمع البلدان عالمياً إلى مجرّد أرخبيل هو عبارة عن دار للعجزة!؟
وتماماً كما يبدو هذا الافتراض تهويلياً، تبدو الإجابات التي تُقدّمها الدراسة مفاجئة، وهي تظهر مباشرة في عنوانها: «هل باستطاعة النساء إنقاذ اليابان؟».
يقوم البحث على معطى أساسي يُفيد بأنّ الاتجاه السريع لليابان نحو الشيخوخة يعني أن الاقتصاد يشهد أقسى تراجع لعديد القوى العاملة بين البلدان الصناعية على الإطلاق. ولاحتواء سقوط حرّ لمقوّمات النموّ تُحاجج الدراسة بأنّ على البلاد إيجاد مصادر أخرى للقوى العاملة. وبرأي معدّيها، فإنّ رفع مشاركة المرأة في النشاط الاقتصادي هو الحلّ.
الخلاصة الأساسية هي أنّه لكي يتم ذلك على البلاد أوّلاً أن تعتمد سياسات تُثبّت النساء في المواقع القيادية لخلق مثل عليا تُمثّل حافزاً للنساء الأخريات للانخراط بقوّة والتشبّث بالطموح للوصول إلى المراتب العليا. وفي الواقع فإنّ معدّل النساء في المراكز الإدارية في اليابان هو الأدنى بين الاقتصادات المتقدّمة.
ثانياً، يجدر بساسة البلاد تأمين دعم أفضل للأمهات العاملات. وبحسب الدراسة، فإنّ بيئة عمل أكثر مرونة مدمجة مع تسهيلات أكبر للاهتمام بالأطفال وإجازات أمومة أطول تؤمّن للنساء العاملات الهامش اللازم للقيام بالدور الطبيعي والدور الاقتصادي على نحو فعّال، وتسهم بالتالي في خفض معدّل تسرّب المرأة من سوق العمل بعد الولادة.
وليس بعيداً عن اليابان _ لا جغرافياً بل ديموغرافياً _ يبرز النموذج اللبناني الذي يُقدّم صورة أفظع بأشواط عن ضعف مشاركة النساء في قوّة العمل. فإذا كان انخراط المرأة اليابانية في سوق العمل البالغ 63% يُعدّ ضعيفاً _ وفقاً لمعايير الدراسة المذكورة _ تتراجع هذه النسبة إلى 25% فقط في لبنان.
يتحدّث وزير العمل السابق، الباحث الاقتصادي/ الاجتماعي، شربل نحاس عن هذا الرقم في إطار عرضه لسوق عمل يشوبها إجمالاً التشوّه وغياب التقنين. ومن بين الأرقام الأكثر دلالة على هذا الوضع هو أنّ نسبة الأجراء النظاميين في لبنان لا تتجاوز 30%، فيما تُساوي أضعاف هذا المستوى في البلدان الأخرى، وصولاً إلى عتبة 95%.
وفي حالة النساء تحديداً يلفت إلى أنّ «نسبتهن مرتفعة في التعليم الجامعي»، رغم ذلك تبقى مشاركتهن الاقتصاديّة ضعيفة، فيما الحاجة ماسّة إلى الإناث في سوق العمل. ففي ظلّ المعدلات المرتفعة للهجرة، تحديداً في صفوف الشباب، يتجه المجتمع اللبناني صوب الشيخوخة أسرع بكثير من نظرائه العرب. فبحسب بيانات منظمة العمل العربية، تُمثّل شريحة السكان فوق 60 عاماً أكثر من 11% من إجمالي عدد السكان، فيما المعدّل لا يتجاوز 5% في سوريا.
ولذا يُعدّ البحث أساسياً حول كيفية تحفيز إشراك المرأة في النشاط الاقتصادي، لخفض التأثير الديموغرافي للهجرة، وفي الوقت نفسه تمتين مقومات النمو في البلاد.
«في الأساس يجب إصلاح قانون العمل، لأنّ هناك عنصرية واضحة ضدّ النساء في لبنان»، كما يرى أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت جاد شعبان. برأيه، فإنّ إجراءات تبدأ من الحوافز الأكبر لتربية الأطفال وصولاً إلى إجازات أمومة أطول _ هي 40 يوماً في لبنان وتصل إلى عام كامل في البلدان الاسكندافية _ من شأنها أن تُريح المرأة وتُزيل العنصرية التي تُحيط بوجودها الاقتصادي.
بيد أنّ المشكلة هي أكبر وتتعلّق بحجم الوظائف التي يخلقها هذا المجتمع. «المستوى التعليمي الرفيع للنساء يدفعهن إلى انتظار الوظيفة ذات الراتب الكبير، ولكن تلك الوظيفة قد لا تأتي أبداً».
هكذا تولد «التشوّهات الثقافيّة التي تجعل المرأة المتزوّجة مثلاً تفضل البقاء في المنزل وانتظار الحوالة المصرفيّة من المهجر عوضاً عن العمل براتب لا يكفي»، يُضيف الأستاذ الجامعي.
وتلك التحويلات دسمة فعلاً، إذ تفوق 6.8 مليارات دولار سنوياً. وبالتالي، رغم تشابه لبنان واليابان، فإنّ ما يُمكن تحقيقه مع النساء هناك بعيد جداً عن الواقع هنا!