مرّ 30 تشرين الأول ولم يستقل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط من منصبه. هناك في قصر المختارة الحجري الكبير، ما زال وارث زعامة آل جنبلاط هو نفسه «بيكاً اشتراكياً» على غرار اشتراكيي الثورة الفرنسية. من يذكر جنبلاط على منبر قاعة الرسالة الاجتماعية في عاليه قبل عام وبضعة أيام؟ كان «الربيع العربي» يجتاح كل شيء. صيحات «الشعب يريد» الآتية من تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا، وربّما البحرين، تطنّ طنيناً قاسياً في رأس الرجل. في خطاب طويل أمام قدامى الحزب وشبابه وكوادره، انهال البيك على شموليّة الأنظمة العربية. وفي زبدة خطابه، دعا إلى تحويل «الجمهوريات الوراثية الى جمهوريات دستورية، وتحويل الأنظمة الملكية الى ملكيات دستورية». أي الإسقاطات تنطبق على زعامته؟ أهي الجمهوريّة الاشتراكية الدرزية أم مملكة آل جنبلاط الاشتراكية، حتى يقطع وعداً بإصلاحات جذرية في بنية الحزب، من ضمنها تركه سدّة الرئاسة لرفاقٍ آخرين؟
يدرك البيك أن من يريد أن ينتقد النظام السوري وشموليّة البعث السوري حليف الأمس خصم اليوم ودكتاتوريّة الرئيس المصري حسني مبارك الحليف أيضاً، لا يمكنه أن يبقى رئيساً لـ35 عاماً. وبالطبع لا تصلح المقارنة بين البيك أو أي من دكتاتوريي العرب. الرجل لم يأت بانقلابٍ عسكري، ولا تجوز مقارنته بالملكيات الوراثية أيضاً. جنبلاط زعيم أقليّة يفديه أكثر من نصفها بأرواحهم، شاء الربيع العربي أو أبى.
«أكثر المتضرّرين من تأجيل الانتخابات الحزبيّة هو الرئيس» يقول ظافر ناصر، أمين السّر العام في الحزب الاشتراكي، «فالرئيس التزم أمام الحزبيين بالتغيير بعد عام، وحين طرحنا موضوع التأجيل أبدى امتعاضاً كبيراً». دخل ناصر «برجله اليمنى» أمانة السر العامة مكان أمين السر السابق المقدم شريف فيّاض، بعدما فاز بأصوات رفاقه في الجمعية العامة للحزب وبرغبة البيك في تطعيم الحزب بدم جديد. في مكتب ناصر «عجقة» الإدارة الحزبية، بريد صادر ووارد، وحزبٌ يبدو في قمّة نشاطه.
يقول ناصر إن تأجيل الورشة الحزبية التي «وعد الرئيس بها العام الماضي، ومن ضمنها عدم ترشّحه إلى الرئاسة في الدورة المقبلة، لم يكن عملاً مقصوداً». وليس التأخير في انتخاب القيادة إلا عملاً بالتعديلات الدستورية التي تسمح بمهل زمنية حتى آذار المقبل.
من حظّ ناصر أنّه يعاصر جنبلاط الجديد. النسخة الجديدة المنقحة من البيك شعارها عنوانان: لا للتوريث السياسي والقيادة للشباب. وناصر ليس وحده من أصابه حسن الحظّ، هو من ضمن مجموعة من الشباب التي خرجت من رحم منظّمة الشباب التقدمي كخضر غضبان وبهاء أبو كروم وزياد نصر وريان الأشقر ورائد أبو حمدان وأيمن كمال الدين وأحمد مهدي لتتسلم مواقع قيادية في التنظيم الحزبي.
بحسب ناصر، فإن الفترة الممتدّة من الآن حتى آذار المقبل ستشهد تطوّرات مهمّة بالنسبة إلى الحزب، وستبدأ الفروع الحزبية في كلّ المناطق بتنظيم جمعياتها العمومية لانتخاب قيادات الفروع في القرى ومسؤولي المعتمديّات (مجموعة قرى). يتسلّح أمين السر العام بتعديلات مهمّة على الدستور الحزبي أقرّتها ما تسمّى «جمعية المرشدين»، والتي لها الحقّ في تعديل الدستور. فقد أقرّت الجمعية قبل أسابيع عدّة نقاطٍ تضمن اعتماد آلية الانتخاب لاختيار القيادة الحزبية، وأهمّ ما أقرّته بالنسبة إلى جيل الشباب هو اعتماد سنّ 18 عاماً لدخول التنظيم ونقل بعض صلاحيات الرئاسة إلى أمانة السّر العامّة، ليصبح أمين السر العام رئيساً للسلطة التنفيذيّة في الحزب.
الحديث مع القياديين الجدد له نكهةٌ أخرى عن جنبلاطٍ آخر تشبه تلك التي تراها حين يتحدّث البيك بالفرنسية عن «بودلير» أو «جان بول سارتر». الشباب مؤمنون بما يفعلون، وبأن حزبهم سيتميّز عن الزعامة التقليدية ليدخل مرحلة التحديث السياسي والتنظيمي من بابه الواسع. الرفيق أيمن يعتدّ بـ«المعادلة الذهبية» التي أرساها البيك طوال عقود حكمه: المواءمة بين الحزب التقدمي الاشتراكي وزعامة طائفة. يرى كمال الدين أن أمام الشباب في الحزب اليوم فرصة كبيرة منحهم إياها الرئيس للسير مجدّداً على نهج الراحل كمال جنبلاط وأفكاره، «لنا هامش التحرك الآن، والتطوير والتحديث هما الشغل الشاغل». في رأس كمال الدين صورةٌ مِثال: الوزير والنائب وائل أبو فاعور. تدرّج أبو فاعور في المنظّمة، وهو اليوم «من أنجح النواب والوزراء». وعلى الرغم من «الهامش الكبير الذي بات الشباب يحظون به اليوم، يقدّر الشباب دور المناضلين الذين سبقونا» يقول ناصر. هل حقّاً سيترك جنبلاط رئاسة الحزب ويتربّع على عرش الرئاسة حزبيٌ آخر؟ «حقّاً...» يجزم الشباب بنيّة جنبلاط وصدقه في اتخاذ هذا القرار، «وهذا يظهر في جدّيته لسير العمل الحزبي على قواعد الدستور». لكن، من يدري؟ يترك الشباب أيضاً هامشاً للخطأ: في آذار المقبل نكون على مقربة من الانتخابات النيابية المقبلة، ربّما نحتاج إلى أن يبقى الرئيس رئيساً. ثمّ من قال إن القاعدة الحزبية المبنية على توازنات دقيقة لها علاقة بالطائفة والعائلات لا يضبطها غير جنبلاط، قد تقبل بأن يكون غيره رئيساً؟ «وليد جنبلاط أكبر من أي منصب» يقول كمال الدين.
أين تيمور جنبلاط؟ في باريس. قبل أسبوعين، أشار جنبلاط إلى أن تيمور سيمسك بأمور البيت بعد انتخاب رئيس جديد للحزب. لا للتوريث السياسي في الحزب إذاً، ونعم للتوريث في العائلة. برأي الرفاق، تيمور اشتراكي مثله مثل أي اشتراكي آخر، وله الحقّ في ممارسة دوره كأي رفيق أو قيادي آخر أيضاً، «لكنّه لن يرث الحزب».
«من شرب البحر، لن يغصّ بالساقية»، ومن انتظر 35 عاماً، ينتظر حتى آذار المقبل ليرى الحزب التقدمي الاشتراكي ديموقراطيّاً. هكذا أراده البيك، وهكذا سيكون. هكذا يؤكد الجنبلاطيون.