في زمن الرئيس حافظ الأسد، كانت المعارضة السورية، بفصائلها العروبية والماركسية والاسلامية، أكثر جذرية وعلى يسار النظام في القضايا القومية ــ الوطنية، وقد ظهر ذلك في محطات الدخول السوري إلى لبنان (1976) وفي اتفاقيات كامب دافيد (1978) وفي اجتياح اسرائيل للبنان (1982) وفي حرب الخليج (1991) وفي مؤتمر مدريد (1991). وليس بدون دلالة أنّ حزباً رئيسياً للمعارضة مثل الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي، كان انتقاله لمعارضة النظام بيانه الصادر ضد الدخول العسكري السوري إلى لبنان، فيما لم يحصل بناء برنامجه المعارض على أساس الوضع الداخلي السوري إلا في مؤتمره المنعقد في كانون الأول 1978.
انقلبت هذه المعادلة إثر غزو واحتلال العراق في 2003، لما أدى موقف السلطة السورية الرافض للغزو والاحتلال الأميركيين لبلاد الرافدين إلى طلاق بين واشنطن ودمشق، مما أدى إلى انفراط تفاهمات وتقاربات بين العاصمتين بدأت في صيف 1976 مع الغطاء الأميركي لدخول القوات السورية إلى لبنان. منذ تلك الفترة، بدأت تنتشر في أوساط المعارضة السورية مؤشرات على مراهنات على الخارج، من خلال أطروحات مثل «نظرية الصفر الاستعماري»، التي أطلقها الأستاذ رياض الترك في مقابلة مع جريدة »النهار» في 28 أيلول 2003، معتبراً فيها أنّ الأميركيين نقلوا «المجتمع العراقي من الناقص إلى الصفر». تبعه الدكتور برهان غليون في 2 شرين الأول 2003، بمقال تحت عنوان: «الإصلاح مجرد سوء تفاهم» (موقع «أخبار الشرق»)، في اصدار حكم قاطع، وهو الوثيق الصلة بدوائر صنع القرار في باريس. وحكمه ذاك جاء بناء على توتر العلاقات الأميركية ــ السورية وبناء على تقاربات شيراك وبوش الابن التي بدأت آنذاك. وقال غليون: «النظام السوري، مثله مثل جميع الأنظمة الشمولية التي عرفتها الكرة الأرضية خلال القرن العشرين، قد فقد جميع شروط بقائه التاريخية وفي مقدمها ظروف الاستقطاب الدولي... وهو اليوم في طريق مسدود دائماً». مما كان يعني مؤشراً على الاتجاه لأول مرة نحو بناء سياسات عبر توقع رياح خارجية ضد النظام السوري كما فعلت المعارضة العراقية ضد صدام حسين ما بين أزمة الكويت (2 آب 1990) وحتى احتلال بغداد (9 نيسان 2003). وهو ما كان يردده الأستاذ الترك في أحاديث مغلقة بعد عودته من زيارة استغرقت شهرين (تشرين الأول ــ تشرين الثاني 2003) للقارتين الأوروبية والأميركية، من أنّ هناك «رياح غربية ستهب على دمشق وعلينا أن نلاقيها ببرنامج سياسي مناسب».
في صيف وخريف عام 2005، جرى تطبيق عملي لتحريك أشرعة سفن أغلبية كاسحة من المعارضة على رياح «أزمة ميليس» والتي بنيت حسابات على أساسها بأنّ «هذا النظام انتهت صلاحيته. هذا النظام يحتضر... هناك صراع بدأ يستعر بين الأميركيين وسوريا، وهذا يفسر لماذا أقول إنّ الأميركيين قادمون سواء رحبنا بهم أو لم نرحب... ولكن لنتكلم موضوعياً، عندما يصاب الوضع الداخلي بالوهن، القوى الخارجية تتدخل، وهذا يفسر لماذا أقول دائماً إن الأميركيين قادمون. دعهم يطيحون هذا النظام!». هذه مقتطفات من تصريح أدلى به الأستاذ رياض الترك لموقع «سيريا كومنت» في 8 أيلول 2005، وهو موقع يديره شخص من غلاة المحافظين الجدد اسمه جوشوا لانديس. في موازاة ذلك، قام قيادي ووجه اعلامي في الإخوان المسلمين، هو الطاهر ابراهيم، بالتكلم بلغة مشابهة: «ما تريده أميركا قد يتقاطع في مرحلة ما مع مصلحة الشعب السوري... ولعل أول شيء ينبغي أن يخطر ببال المعارضة هو أن تلتقي وتبحث في ما بينها إن كان من الممكن أن تجري حواراً مع أميركا، ما دام هذا الحوار يحصل على مبدأ أن هذا النظام قد انتهت مدة صلاحيته» (الطاهر ابراهيم «خارج السياق وبعيداً عن المزايدات»، موقع «الرأي»، تحديث يوم 6 تشرين الأول 2005). أتى تأسيس «اعلان دمشق» في 16 تشرين الأول 2005 على هذه الخلفية وعلى سقف توقعات بسقوط النظام انطلاقاً من نظرية انتهاء الصلاحية للنظام عند الغرب، قبل أن تفاجئهم الدوائر الأميركية بأنّ الضغط على السلطة السورية هو من أجل «تغيير سياسات النظام، وليس تغييره»، مع توضيح أميركي صريح بأنّ الأجندات المطلوب تغييرها من دمشق تنحصر في مواضيع ثلاثة غير سورية: حزب الله، حركتا حماس والجهاد، والمقاومة العراقية.
كان الدكتور برهان غليون، مع انفتاح ساركوزي على دمشق في صيف 2007، ثم أوباما في عامي 2009 و2010، من أول المرتدين على نظرية «انتهاء الصلاحية» التي كان رائدها في المعارضة السورية. نظرية كان اقتناع الأستاذ الترك بها عن طريقه ليس بسبب شخصه وإنما لقناعات عند الترك بأنّه يعكس دوائر فرنسية حاكمة كانت منذ خريف 2003 تؤسس لتقارب مع واشنطن ناقضة تراثاً فرنسياً في الصدام مع البيت الأبيض دشنه الجنرال ديغول منذ الستينيات. ونجد في مقال للدكتور غليون بعنوان «مستقبل المعارضة السورية» (جريدة «الاتحاد» الإماراتية في 19 كانون الأول 2007) دعوة إلى «التخلي عن الاستراتيجية القديمة التي ارتبطت بتوقع انهيار مفاجئ... (و) تغذية الأوهام الكبيرة في أثر العوامل الخارجية». حصلت في أسبوع زيارة ساركوزي لدمشق ترجمة لذلك عند «اعلان دمشق» لما أصدر في 5 أيلول 2008 بياناً («كلنا شركاء»، 6 أيلول 2008) أكد فيه أنّه «لم يكن في نهجه وليس من أهدافه تعزيز عزلة النظام ومحاصرته، بل إنّ مشروعه الديموقراطي يركز أساساً على الدفع نحو انفتاح النظام على الشعب السوري قبل أو بالتزامن مع انفتاحه المطلوب على العرب والعالم». قبل أن يؤكد تأييده للمحادثات الاسرائيلية ــ السورية تحت الوساطة والرعاية التركيتين وبمشاركة من باريس، مع تسجيله «موقفاً ايجابياً من التطورات المستجدة في سوريا والمنطقة». اصطدمت سياسة «اعلان دمشق» بالحائط أيضاً في أعوام 2008 ــ 2009ــ 2010 كما في عام 2005، في مراهنته على «رياح غربية» كانت صدامية مع السلطة السورية في 2005، وانفتاحية بين عامي 2007 ــ 2010، بان من خلالهما مدى ومقدار رسم السياسات بناء على مجرى ومسار العامل الخارجي.
مع بدء الأزمة السورية بدرعا، في 18 آذار 2011، حصلت ارتدادات عند المراهنين القدامى عن العامل الخارجي لما رأوا استيقاظاً للعامل المحلي السوري المعارض، وعودة للشارع السوري إلى السياسة. إلا أنّهم ومع توضح عدم قدرة الحراك السوري المعارض على تكرار السيناريو المصري، نراهم يتجهون ويعودون لنهجهم القديم في المراهنة على الخارج في اتجاه العمل نحو تكرار للسيناريو الليبي في سوريا، خاصة مع تزامن سقوط القذافي في باب العزيزية في 23 آب 2011 مع اتجاه باراك أوباما إلى مطالبة الرئيس السوري بالتنحي بعد أشهر من دعوته إياه للمبادرة إلى الاصلاح. وقد كانت واضحة مراهنة «اعلان دمشق»و«الاخوان المسلمين» على العامل الخارجي في محادثات أيلول 2011 بالدوحة مع «هيئة التنسيق»، قبل أن يتجها إثر فشل تلك المحادثات إلى تشكيل «المجلس الوطني» في اسطنبول يوم 2 تشرين الأول. مجلس كان واضحاً مقدار تقمصه وطموحه إلى تكرار ما فعله نظيره الليبي بالقذافي عبر الناتو، وهو ما كان جلياً وواضحاً وغير مستور في مجرى عام كامل من عمر ذلك المجلس.
لم تسمح التوازنات الدولية ــ الاقليمية بتكرار السيناريو الليبي في سوريا، وهذا ما أدى بنزعة مجلس اسطنبول نحو استجلاب الخارج لتحقيق التغيير الداخلي، لكي تكون من دون مفاعيل عملية على الأرض، بخلاف ما حصل عند المعارضتين العراقية والليبية ضد صدام والقذافي. وهذا ما جعل ذلك المجلس عبئاً على رعاته في أنقرة وباريس والدوحة، وعقبة عند واشنطن التي نأت بعيداً عنه، ولم تقترب إلا قليلاً منه. بقي ذلك حتى أتت حادثة بنغازي التي أدت إلى مراجعة عند الإدارة الأميركية لقضية التحالف مع الاسلاميين البادئ مع سقوط مبارك، ثم اقتراب رياح التفاهمات الأميركية ــ الروسية من الحدوث حول الأزمة السورية، لكي تدفعا وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون لكي تقدم نعياً علنياً لمجلس اسطنبول في كلمتها تلك بالعاصمة الكرواتية زغرب في 31 تشرين الأول 2012، وتدعو إلى انشاء جسم سياسي بديل، قبل أن يشرع وزير خارجية قطر والأمين العام للجامعة العربية في صباح اليوم التالي في توجيه الدعوات لعقد «لقائه التشاوري». يثير منظر الوزيرة كلينتون في زغرب، وهي تميت وتحيي كيانات سياسية سورية على الهواء مباشرة، الحزن والأسى، لكنه يشير إلى مدى ارتهان أوساط واسعة من المعارضة السورية للأجندات الخارجية، وإلى أي حد أصبح فيه تراث يوسف العظمة، ومحمد الأشمر وعزالدين القسام ضعيفاً أمام تراث الشيخ تاج الدين الحسيني، وأمام تراث ذلك الدمشقي الذي جر عربة غورو في شوارع عاصمة الأمويين «الذين ألحقوا الدنيا ببستان هشام»، بعد يوم من معركة ميسلون.
* كاتب سوري